يمكن للمنتج أن يكون مصنوعًا ببراعة، ولا يستطيع مع ذلك اختراق السوق، وهو عجز عن الاختراق يشي بغفلة صانعه عن دراسة السوق التي يقع في مركزها الفحص العميق لطبائع وحاجات المستهلكين، ويليها في الأهمية المكان الذي يراد توضيع المنتج فيه.
ومن الأدوات المساعدة في تسويق المنتج الإعلان عنه، ولقدرته على التأثير مقومات:
منها أن يكون الإعلان عن المنتج في مكان يراه أغلبية المستهدفين.
وأن يصاغ الإعلان بلغة تجذب المستمع.
وأن ينتزع منه التصديق بأسلوب مقنع.
عندما وقف نبي الإسلام على مكان مرتفع، ودعا الناس إليه حقق المقوم الأول من مقومات نجاح الإعلان، ثم انتزع اعترافًا ممن دعاهم بصدقه وأمانته، ومن ثم أبلغهم بالوحي الذي نزل عليه.
حقق النبي شروط الإعلان الناجح عن دعوته، واستطاع على الرغم من رفض الكثيرين في البداية أن يحدث تحريكًا لفكر الرافض، والشاك، والأقرب إلى التصديق.
وهو بمعرفته المكتسبة من دراسة عميقة للواقع عرف الممكن الأكثر قابلية للتحول الى واقع، إنه ممكن التوحيد الذي كانت تتطلبه ضرورة التوحيد السياسي والاقتصادي لدى القرشيين، ولم يكن هذا الممكن في الوقت عينه غريبًا؛ إذ وجد من يتبنونه عقيدة لهم، وإن كانوا أفرادًا، ومن لم يؤمن به لم ينكر موضوعه، وهو الله ولكنه لم يقبل بوحدانيته.
السياق التاريخي حوض مائي يفتح سكورًا لممكنات محولًا إياها إلى واقع، ويغلقه أمام ممكنات مبقيًا إياها في طور الإمكان.
فتح رسول الإسلام السكر الذي كان ينطوي على قابلية التحول إلى واقع أكثر من غيره من الممكنات.
إنها دراسة السوق في مصطلحات التسويق السياسي الذي يعنى بدراسة تسويق البرامج السياسية، والأفكار، وكيفية تحقيق قبول المستهلكين بها، وهم هنا المستهدفون بهذه البرامج والأفكار.
في ضوء ما ذكرناه يمكن لنا أن نحاكم تجربة تعريب الماركسية التي كانت منتجًا متميزًا إذا فًحص منفصلًا عن مدى اختراقه للسوق السياسية.
أن تعمد إلى تبيئة المنتج عمل حصيف، وينبئ عن إدراك لضرورة فهم السياق التاريخي، ولكنّ ما حدث أن منظري التعريب لم يستطيعوا فتح السكر أمام ممكن أكثر قابلة للتحقق؛ لأن تغلغل فكر يقوم على أسس مغايرة بشكل جذري لأسس البيئة المستوردة أمر يشبه المستحيل.
وهو ما يجعل توسيط البعد القومي بين المنظومة الماركسية، وبين استنباتها غير كاف، وإن كان ضروريًا.
دراسة السوق، إذن، لم تكن دراسة مستفيضة؛ لأنها استندت إلى مقدمة لدى صانع المنتج أن منتجه إعادة صياغة لمنتج يصلح لكل مجتمع، بما ينطوي عليه من أسس علمية، وما يخنزنه من قيم إنسانية، وهي مقدمة غير مقطوع بها لدى كثير من الفاعلين الاجتماعيين في المكان المستهدف، ومرفوضة من جانب الأغلبية.
وأما أدوات الترويج، وفي مقدمتها الإعلان فلم تتجاوز تأسيس حزب سياسي في ظل طغيان مد إسلامي لم يكونوا غافلين عنه، وقد جاء هذا المد -على حد تعبير أبرزهم- محمولًا على براميل البترول.
وأما اللغة المستخدمة فقد كانت لغة لا متات صلة لها بالمستهدفين، وظلت مفارقة للخطاب التداولي المشترك، وهو ما أورث متداوليها بعد تطاول العهد شعورًا وهميًا بالتفوق، وقدرًا غير قليل من الاستعلاء، مع أنهم ليسوا أكثر من مرددين لهذه اللغة، وليسوا مخترعين لها.
واهم من يظن أن نظرية تقوم على أساس كلي واقعي (وهو قسيم للكلي الاسمي الذي يرفض عد الأسماء مطابقة للماهيات، ويرفض عد القيم ذاتية في الأشياء)، يستغني عن مركز للوجود يمكن أن تتصدر الساحة في مجتمعات يمثل التوحيد عند عمومها منطلق الحياة وغايتها، ويكون مسوّقًا فاشلًا إذا ظن أن توسيط القومية يكفي لجسر الهوة بين هذين المختلفين جذريًا.
لا يكفي أن تكون مفكرًا ألمعيًا، ففي عصر ما بعد الحداثة أصبح التسويق أهم من المنتج نفسه، الذي سيتلف مهما كان فائقًا إذا لم تمتلك أدوات تسويق فاعلة.
“رئيس التحرير”