يخترق الاحتمال معظم مستويات الفعل اللغوي للنص المقدس، وتنطوي دلالات ألفاظه على إمكانيات لجعله أكثر قدرة على الاستجابة للأحوال المتغيرة، ومن واجبنا تسليط الضوء على إمكانات تأويله، وعلى الاحتمالية الكامنة في ألفاظه؛ لمنع المتطرفين والجهلة من اختزاله إلى أداة لتحقيق مآربهم الشخصية، وللتنفيس عن أحقادهم.
إن قصدية النص تتوسط بين قصديتي: المؤلف والقارئ، وهي -بحسب سيميائية أمبرتو إيكو- قصدية لا تسمح بترك الحبل على الغارب للقارئ؛ لكي يفتح النصّ على فوضى التفسير كما فعلت التفكيكية، ولا تقتل المؤلف وتهمّش القارئ كما فعلت البنيوية، وإنما تصرّ على التقاء في منتصف الطريق بين القارئ والمؤلف -عبر توسط النص- الذي يجب إدراك أن فهم معناه منطوٍ على فهم بنيته، وفي الوقت نفسه على تأويله؛ لأن التأويل متخفّ دائمًا في علاقات داخل النص، وهو يسمح بفتحه على فضاءات الإمكان، ضمن حقل تأويليّ، ترسم أطره الموسوعة المعرفية للقارئ والمؤلف، لا يجور عليه ولا يستنطقه بما لا يقول.
إن النص المقدس لا يمكن أن يكون بنية معزولة عن قصدية واضعه، ولا عن فهم تأويليّ لمتلقّيه، وإنّ إمكانية فتحه على عوالم الإمكان، لا تحتاج إلى استيراد مناهج غربية، وإن كان استثمارها أمرًا إيجابيًا أحيانًا كثيرة.
إن تقسيم الأصوليين مستويات الفعل اللغوي إلى نص، وظاهر، ومؤول، ومجمل، كفيل -إلى حد كبير- بتوضيح إمكانات تأويله، وإمكانات فتحه على عوالم واسعة.
النصّ هو ما كان لفظه دليله، وبتعبير آخر هو رجحان دون احتمال.
والظاهر رجحان مع احتمال.
والمؤول رجوح مع احتمال.
والمجمل احتمال مع تساو.
واضح أن الاحتمال قاسم مشترك بين هذه الأقسام -ما عدا القسم الأول وهو المسمى “النص”- وهو في نظر جمهور يعتد به من العلماء نادر وقليل العدد، و يمكن الاستنتاج بسهولة أن الإمكان الذي يفتحه الاحتمال يفتح النص على تأويلات لا تشتطّ خارج حدود الحقل التأويلي ومحدداته، ولكنها تكسبه غنى يكبر إذا علمنا أن المؤول من النصوص -وهو يقسم إلى تأويل قريب إذا كان دليله قادرًا على تحويل المرجوح في نفسه راجحًا، وتأويل بعيد إذا كان دليله ضعيفًا ، ورغم اعتماده في قوته وضعفه على توسط الدليل- يبقي الفضاء مفتوحًا؛ لأن الأدلة تتفاوت بحسب مخزون المؤول وقدراته، وتظل قابلة للقبول والرفض.
أما قطعية الدلالة وقطعية الثبوت، فتحتاجان إلى تبصر يمنع استخدامهما استخدامًا يختزلهما إلى أدوات للإرهاب الفكري.
يظلّ النص أداة صالحة للاستثمار المشبوه ما لم يتمّ الاعتراف بأنه يكف عن التفاعل مع الواقع ما لم تكن الموسوعة الثقافية للمشتغلين عليه هي الإطار الذي يفتحه على ممكناته الثريّة، والحقل التأويلي الذي يضبط حدود ما يمكن استيلاده من مستخرجات من رحمه. قطعية الدلالة التي تنطوي عليها بعض عباراته وهي الأقلّ من مجموعه -حسب رأي عدد يعتدّ به من رواد تفسيره وتقنين استخراج معانيه- أصبحت فزّاعة يرفعها وكلاء الحقيقة الحصريون من الإسلاميين والمتأسلمين لكي يغلقوا باب الجدل الخلاق، الذي بمجرد ما ارتخى أحد طرفيه، انغلق على دوغمائية استبدادية، وعلى ادعاء باحتكار الحقيقة يمثل أقسى أنواع العنف الرمزي الذي يفرّخ العنف المادي.
ما يغيب عن أذهانهم أن النص -بمكوناته العلائقية- يخترق الاحتمال كلّ مستويات أفعاله اللغوية، ما عدا مستوى واحدًا لا يمثل من حيث نسبته إلا النسبة الأقل من مجموعه، وهو مستوى النصّ، أما الظاهر والمجمل والمؤول –بحسب تقسيم الأصوليين- فكلها مستويات تنطوي على احتمال يزيد وينقص -بحسب كل مستوى- كما ذكرنا آنفًا. أما قطعية الثبوت فهي -وإن كانت ثابتة باعتقاد المسلمين، فيما يتعلق بنصهم المقدس الأول-، فهي لا تنسحب على النص النبوي الذي يمثل المرجعية المقدسة الثانية، من حيث الترتيب؛ لأن الصحيح منه ظنيّ الثبوت كائنًا من كان راويه، ومهما بلغ سنده من إشراق، وخلوّ من القوادح والعلل.
ولأحد المجتهدين الكبار في خمسينيات القرن الماضي رأي في حادثة مروية في الصحاح فحواها: أن جماعة من العرب أسلموا ثم ارتدوا وقتلوا الرسل الذين أرسلهم النبي معهم لتعليمهم دينهم، فأمر النبي رهطًا من أصحابه بالإيقاع بهم، وقتلهم عن طريق منع الماء عنهم في الصحراء، وجعلهم يموتون عطشًا. وهي رواية يناقشها ذلك المجتهد بالقول: إن رحمة النبي معلومة بالضرورة، وهي لا تنسجم مع تنفيذ عقوبة بهذه الوحشية، أما الحديث المرويُّ في الصحاح، فهو حديث منقول عن آحاد، ولا يفيد القطع؛ فمن الطبيعيّ، إذن، تغليب المعلوم بشكل قطعيّ على الظنيّ، ولو روته كلُّ الصحاح.
أما دلالات الألفاظ في أصول الفقه فهي أداة أخرى لسدّ أفواه المتطرفين الذين يأخذون بحرفية النصوص؛ ليطبقوا حدودًا، لا يجوز تطبيقها من دون توخي مقاصد التشريع، وفهم دلالات الألفاظ في النص.
فالخصوص والعموم -مثلًا- من ضمن دلالات الألفاظ، إذا طبقا على حد السرقة، يمكن أن يجعلا تطبيق الحد الذي يرفع العقيرة به وكلاء الحقيقة الحصريون هؤلاء، غير ممكن شرعًا في حالات كثيرة.
وتوضيح ذلك أن لفظ السارق في الآية” والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما” لفظ عام، ونماذج السرقة نماذج خاصة، فمثلًا النباش الذي ينبش القبور لكي يسرق محتوياتها نوع خاص، والطرار، الذي هو النشال في زماننا، نوع خاص آخر، فهل ينطبق عموم لفظ السارق في الآية على هذين النوعين الخاصين، فيطبق عليهما حد قطع اليد أم لا ينطبق؟
هنا تصبح المسألة اجتهادية، ومتروكة لتقدير الحاكم بحسب الأحوال، ويصبح مفهومًا أن كل حالة سرقة تحاكم بالنظر إلى حيثياتها، فهي حالة خاصة، لا يشترط أن ينسحب عليها الحكم المنصوص على تطبيقه على السارق بدلالة لفظه العامة.
وينطبق الأمر نفسه على كل الألفاظ العامة في النصوص المقدسة.