إياد أبو شقرا
بصراحة وإيجاز شرحت مارين لوبان، مرشحة اليمين المتطرّف المعادي للمسلمين والمهاجرين لرئاسة فرنسا، تعامل الغرب مع ثورة سوريا التي أكملت بالأمس 6 سنوات.
لوبان قالت في لقاء مع قناة «العربية»، بالأمس، رداً على سؤال عن موقفها من بشار الأسد: «إذا خيّرت بين الأسد وداعش أختار الأسد». هذه الحقيقة كان يعرفها القيّمون على النظام السوري والساهرون على مصالحه. وبالتالي، من أجل إنقاذ هذا النظام كان لا بد من حرف الثورة الشعبية عن مسارها، وضرب قوى الاعتدال المسلحة وغير المسلحة، وحرمان الثوريين الحقيقيين من كل أسباب الدعم أو الحماية.
وهكذا وصلنا بالفعل إلى «السيناريو» المثالي… أي إلغاء الشعب السوري من المعادلة كلياً وتصوير ما يحصل منذ 6 سنوات على أنه «مفاضلة» بين نظام لا مشكلة عنده في تقديم تنازلات للجميع باستثناء شعبه، وإرهاب متطرّف مشبوه معظمه مستورد.
كان ضرورياً حماية النظام، المستمر منذ 1970، والذي بالنظر لـ«الخدمات» الثمينة التي قدمها لرعاته الحقيقيين… ما كان مقبولاً أن يسقط. وحتى بعد اعتماد النظام خيار العنف المفرط منذ التصدي لأطفال درعا ومظاهرة حماه السلمية خلال صيف 2011، تأكد وجود إصرار دولي على التقليل من شأن إجرامه ونسف صدقية معارضيه.
في حوار معي في لندن قبل 4 سنوات، دعت البارونة (إيما) نيكولسون، السياسية البريطانية – التي نشطت دفاعاً عن ضحايا نظام صدام حسين – اللاجئين السوريين إلى العودة إلى سوريا «لأن الأسد ليس صدام حسين!»، وأنهم سيكونون في مأمن تحت حكمه!
وطبعاً، لا ننسى الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، ومعه فريق مستشاريه ومنهم فيليب غوردن وفاليري جاريت وسوزان رايس ودينيس ماكدوناه وجايك سوليفان. أوباما لعب الدور الأكبر في «إعادة تعريف» الأولويات العملية بالنسبة لواشنطن في سوريا.
مثل لوبان، آمن أوباما – الملتزم بصفقة نووية واستراتيجية مع إيران – بأن الأولوية في سوريا مواجهة داعش، مع أن التنظيم المتطرف ظهر – بشكله الحالي – بعد سنتين من الانتفاضة الشعبية السلمية والقمع الدموي. بل وسخر أوباما علناً بالمعارضة المعتدلة، وتعمّد الاستخفاف بمكوّناتها بالتوازي مع رفضه المتكرّر حماية المدنيين بإنشاء «مناطق حظر طيران» و«ملاذات آمنة».
إسرائيل أيضاً اختارت – علنياً على الأقل – «الحياد» بين الأسد والثورة. لكنها على أرض الواقع، وعلى ألسنة مسؤوليها الاستخباراتيين كانت تعبّر: أولاً، عن ارتياحها لاستمرار النزف السوري. وثانياً، عن اعتبار نظام الأسد «أهوَن الشرّين» بالمقارنة مع متطرفي داعش و«جبهة النصرة». وحقاً، كان مفهوماً ومنطقياً جداً دعم إسرائيل الضمني النشط للإبقاء على نظام عربي برهن منذ 1973 أنه الأقدر على حماية حدودها، وتصفية خصومها حين وحيث تدعو الحاجة… بينما يزعم العداء والصمود و«الممانعة» في كل مناسبة.
في المقابل، كان نظام الأسد، منذ البداية، يدرك جيداً أنه مهما اختلفت المواقف التفصيلية حيال سياساته، الخرقاء منها أو المدروسة، الذاتية أو المأمور بها، سيظل مقبولاً بالنسبة لقوى كبرى في المنطقة والعالم. سيظل مقبولاً أكثر من أي بديل ديمقراطي يمثل القوى الحيّة في المجتمع السوري.
كان يدرك، من ناحية، أنه يشكل حلقة ضرورية لديمومة حالة الضعف والانقسام المطلوبة دولياً في منطقة الشرق الأوسط. ولذا، يستحيل أن يتخلى عنه أولئك الذين استغلوه عبر العقود في مختلف المهام. ومن ناحية ثانية، كان يعرف أيضاً أولويات «المضمون» اللازم لاحتفاظه بالسلطة بعيداً عن «الشكل». كل الشعارات العروبية والعلمانية والاشتراكية كانت – كما تبين بعد 6 سنوات من الثورة – شعارات زائفة لا معنى لها. فلا معنى لعروبة في ظل تقاطع الحسابات الإقليمية الإيرانية والإسرائيلية والتركية والروسية التي تستند إلى اعتبارات دينية ومذهبية أو تستغلها وتستثمر فيها. ولا معنى لعلمانية عندما تحدد الهوية الطائفية معايير النفوذ ويغدو التهجير الديني والمذهبي والفئوي استراتيجية بقاء. ولا معنى لاشتراكية في كيان تتحكم فيه «مافيات» عائلية احتكارية وزبائنية في خدمة مصالح محلية وإقليمية، وتحوّلت فيه النقابات العمالية والفلاحية إلى زمر ارتزاق و«جماهير» هتافات.
هذا هو الوجه الأساسي لظروف الثورة اليتيمة المحاصَرة الآن بعد مرور 6 سنوات على مظاهرة أسواق دمشق وكتابات الأطفال على جدران أبنية درعا. إلا أنه، مع الأسف، لا يشكل الصورة الكاملة.
لقد ارتكبت قيادات المعارضة، بدورها، أخطاء جسيمة… منها ما هو مفهوم إذا ما أخذنا في الحساب التشويه النفسي الذي تركته الديكتاتورية في الشخصية السورية، ومنها ما لا يستحق «أسباباً تخفيفية» أبداً.
بعض المعارضة دفع ثمناً باهظاً لاختراق عملاء النظام الذين ادّعوا أنهم «معارضون»، ونفّذوا ما كان قد أوكل إليهم تنفيذه سياسياً وأمنياً. وكان بعض رجال أمن النظام قد ظهروا حتى ضمن الفصائل المسلحة، بل والمتطرفة منها. كذلك شاركت شخصيات في مؤتمرات للمعارضة ومارست دورها في التعطيل والإرباك… قبل أن تعود إلى دمشق لتظهر في «بيئتها الطبيعية» بعد أدائها المهام القذرة المكلفة بها.
ولكن على صعيد آخر، أضعفت آفات الفردية والانتهازية والكيدية – عند معارضين حقيقيين هذه المرة – صدقية تجمّعات المعارضة ككل. وهو ما أتاح لقوى إقليمية ودولية فرض «جداول أعمالها» ومصالحها الخاصة عليهم، ومكّن بعض هذه القوى من اصطناع كتل تعبر عن مصالح الداعمين… لا الشعب السوري.
وكان من الإفرازات الخطيرة لذلك سقوط الفصائل المسلحة، خصوصاً، في فخ الشرذمة المذهبية المتطرّفة التي خدمت غايات النظام وداعميه الروس والإيرانيين. وهو ما برّر لقوى مشبوهة كانت زعمت من قبل أنها «لا طائفية» القيام بجولات في الغرب للتحريض على الثورة. وأيضاً، أحسن بعض المعارضين الظن – عن طيب نية – بفصائل وتنظيمات متطرّفة وظّفت سلاحها في معارك جانبية، ومن ثم، أدى التطرّف والتكفير إلى اليأس والتنفير.
الوقت لم يفُت بعد على إنقاذ الثورة، ولا على فضح المتآمرين عليها. لكن آن الأوان لبدء مراجعة صريحة وملتزمة قبل أن يتفاقم النزف وتفقد الثورة القوى المؤهلة لتولي مهمة البناء… عندما ينتهي الهدم.