زلزال بيروت
مقدمة للتغيير أم لانهيار شامل؟
في ظل أزمة سياسية حادةٍ، ما تزال مفاعيلها تتفاقم باضطراد، وضعت لبنانَ تحت حصار سياسي واقتصادي خانق، وفرضت عليه عزلة عربية ودولية. وفي سياق أزمة مالية واقتصادية كادت تودي به نحو حافةِ الانهيار الاقتصادي الشامل، وما تزال تدفع به نحو مزيد من التمزُّق والتخبُّط. ومع غياب شبه تام لدور الدولة الأسيرة والمخطوفة، والتي عطَّلها حزب الله وحلفاؤه عن سابق عمدٍ وإصرار. يأتي تفجير مرفأ بيروت ليضع مستقبل لبنانَ في مهب الريح، كاشفاً فداحة العطَب الكبير لنظام الحكم فيه، ومعبراً عن عمق المأزق السياسي الذي بلغه، وحجم الكارثة التي أصابت البلاد بما تحمله من نتائج وتداعيات خطيرة على كافة الصعد والمستويات، والتي تنذر بتحوله إلى دولة فاشلة.
قبل كارثة التفجير، لم يكُفّ نظام العطَب البنيوي في لبنان بزعامة حزب السلاح الإيراني عن محاولاته للضغط على المجتمع الدولي لاستدراج دعمه، وإنقاذه من الحصار من دون الالتزام بشروط الإصلاح ومكافحة الفساد، خدمة لبقائه في السلطة، ورعايةً لمصالح متعهديه. كما تركّزت مساعيه على قطع الطريق أمام المحكمة الدولية التي كانت على وشك النطق بالحكم في ملف اغتيال الشهيد رفيق الحريري. لكنه، في كل مرة، يتمادى أكثر فأكثر في تحميل الشعب اللبناني عبء دفع المزيد من الأثمان الباهظة من دماء أبنائه وأمنه ولقمة عيشه ومستقبل دولته. في الوقت الذي يواصل فيه حزب السلاح مع أعوانه لعب الأدوار الأكثر خطورة وتدميراً لوحدة اللبنانيين واستقرارهم لصالح لعبته الإقليمية، بجعلهم وقوداً في صراعات المحاور التي يخوضها؛ تنفيذاً لأوامر نظام الملالي في طهران، واضعاً لبنان وشعبه ومقدراته في بؤرة النار والحرائق والتدمير.
لقد أبى نظام الممانعة المشروخة -القائم على تحالف السلاح والفساد معطوفاً على مصالح رموز المحاصصة الطائفية – إخراج لبنان من لعبته المدمرة التي تهدد وجوده، ضارباً عرض الحائط بدعوات تحييده عن صراعات المنطقة، وزجِّ ميليشياته في مواجهة الشعب اللبناني الثائر، وإصراره على خنق لبنان دولة وشعباً، والتضحية بهما خدمةً لما يسمى (حلف المقاومة)، الذي استبسل في قتل السوريين واللبنانيين وغيرهم، لكنه لم يحرك ساكناً ضد غارات اسرائيل على غير مكانٍ في لبنان وسوريا والعراق، بل وأخد على عاتقه تلبية حاجاتها في حماية أمنها وحدودها، وتمسّك وما يزال، بمنع قيام لبنان الوطن والدولة، والسهر على إضعافه وتعميق عجزه، لإبقائه رهينة لمشروع إيران، وساحة متقدمة لأحلامها التوسعية، والاستبدال برسالته الإنسانية والحضارية دولة الميليشيات الطائفية وترسانات الصواريخ والمتفجرات، لإجبار المجتمع الدولي على الاعتراف بها كقوة إقليمية عظمى.
من يفرض على لبنان، ديمومة التخبط والفوضى وينشر أجواء التسيُّب وغياب المحاسبة، ورعاية منظومة الفساد بالقوة والهيمنة، هو المتسبب الأول في نكبة الشعب اللبناني المستباح، حيث لم يكن لهذه الجرائم المتواصلة أن تجد طريقها للتنفيذ إلا في ظل هذه الأجواء المعمَّمة والمحمية بالحديد والنار، والتي يراد منها دفع البلاد نحو مزيد من الضعف والانقسام، ومواصلة اختطاف الدولة، والتفرُّد في امتلاك السلاح والميليشيات للسطو على قرار الحرب والسلم؛ تمهيداً لإسقاط الدولة وإبقاء الدويلة.
بأي حال من الأحوال، وبعيداً عن مسببات التفجير وسيناريوهاته المفترضة، تبقى جريمة تفجير مرفأ بيروت -كائناً من يكون وراءها-جريمة إبادة جماعية، وجريمة ضد الإنسانية بامتياز، تستوجب محاكمة مرتكبيها في أعلى المستويات الدولية، وتفرض على كل من شارك في استكمال أركانها، المحاسبة بأشد العقوبات ردعاً. حتى لو كان الفاعل إسرائيل، فهذا لن يخرج الموضوع عن سياقه، فالمجرم هو من جعل لبنان مستودعاً لصواريخه ومتفجراته، وخزاناً لتزويد الأسد بكل ما يتطلبه من صواريخ وبراميل متفجرة لقتل الشعب السوري، ومن سخّر لبنان ساحةً لحروب الآخرين. فالسياق يفرض تحميل المسؤولية كاملةَ لأركان الحكم الفاسد، وخاصة حزب الله الذي سارع لغسل يديه من آثامها، دون أن يتهم اسرائيل كعادته، خشية افتضاح المستور، والتورط في مواجهة في غير مكانها.
لكن دماء اللبنانيين الأبرياء، ستبقى ثقيلة على أعناق هؤلاء القتلة، ووصمة عارٍ في وجه من يدعي المقاومة، لكنه فتك بحياة اللبنانيين وغيرهم بسلاح الغدر، وسيحمّلهم الشعب اللبناني إلى الأبد مسؤولية هذا الإجرام الكبير الذي لن يكون سوى امتداد لجرائمهم في نهب اقتصاده وتدميره، وقمع شعبه وقتله بعد تجويعه وإفقاره. فتدمير مرفأ بيروت هو مقدمة للدفع بانهيار بيروت وما تمثله من قيمة رمزية في محيطها والعالم، وتدميرها يعني تدمير عاصمة الثقافة والصحافة والسياحة والفنون والآداب، وهو إذ يأتي تتويجاً لانهيارات كثيرة، فإنه يضيف فصلاً جديداً في مسلسل انهيار المشرق العربي برمته وكأنه مقدمة لانهيار شامل.
كثافة الحراك السياسي، وجولة الزيارات التضامنية للعديد من الأطراف الدولية والإقليمية، وكثرة الاتصالات والمشاورات المتواصلة، قد تدفع المرء للشعور بالارتياح جراء هذا الاحتضان الواسع، إلا أنها أيضاً تثير الخشية من الوصول إلى تسويات تعتمد تبادل المصالح بين الدول والتنازلات المتبادلة، بعيداً عن المطالب الحقيقية للشعب اللبناني، والخوف كل الخوف أن تتوارى مصالح لبنان في دهاليز السياسات الدولية ولعبة الأمم، فمهما كانت مشاريع إنقاذ لبنان من نكباته، وكائناً من يكون صاحبها والذي يقف خلفها -دولًا أم تحالفات- فهي لن تستطيع حماية القتلة ومجرمي الحرب وطمس فعلتهم، ولن يكون بمقدورها إجبار الشعب اللبناني المنكوب على القبول باستبدال وصاية بأخرى، والبحث عن أكباش فداء لإنقاذ فريق الحكم الغارق في جرائمه، لصالح أدوات وواجهات جديدة، تضمن مصالح هذه الدولة أو تلك، وتمدد صلاحية هذه الأجندة أو غيرها، على حساب لبنان وسيادته واستقلاله. فخلاص لبنان الذي يدفع وما يزال المزيد من التضحيات، لا يقتصر على التخلص من استعماراته الداخلية، بل يمتد ليشمل كافة أشكال الوصاية، وهما ليسا سوى وجهين لعملة واحدة ابتلي بها هذا البلد الحضاري. فالتحرر من ربقة الاستعباد الداخلي أكثر أهمية من التخلص من الارتهان لأوصيائه الخارجيين لترسيخ سيادة شعب لبنان على أرضه، واستقلاله عن المحاور الدولية والإقليمية، وصيانة حقه في تقرير مصيره.