- مايكل يونغ
صبحي حديدي ناقد أدبي ومعلّق سوري. شارك مع فاروق مردم بك وزياد ماجد في تأليف الكتاب الصادر مؤخراً بعنوان “في رأس بشار الأسد” (Dans la Tête de Bachar al-Assad)، من منشورات سولين/أكت سود في فرنسا. يعيش حديدي في فرنسا منذ عقود، بعدما اضطُر إلى الفرار من سورية في الثمانينيات، عندما كان عضواً في المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوري برئاسة رياض الترك.
أجرت “ديوان” مقابلة مع حديدي في أواخر كانون الأول/ديسمبر لمناقشة كتاب “داخل رأس بشار الأسد”، والاطلاع على وجهة نظره عن بنية النظام السوري والعوامل التي أتاحت له الصمود في وجه الانتفاضة التي نشبت العام 2011.
مايكل يونغ: في حين أن عنوان الكتاب هو “داخل رأس بشار الأسد”، ماتُقدّمونه مع الكاتبَين الآخرين هو تحليل للأساليب التي يعتمدها نظام الأسد للبقاء في السلطة، منذ عهد حافظ الأسد. ما المقاربة التي اعتمدتموها أنتم الثلاثة في وضع الكتاب أولاً، وما الهدف الذي تتوخّونه من الكتاب؟
صبحي حديدي: وُلدت الفكرة خلال أحد لقاءاتنا المعهودة حول مائدة الغداء، حيث أبدينا إعجابنا بالإصدار الأخير في سلسلة المؤلفات الممتازة التي تنشرها سولين/أكت سود تحت عنوان “داخل رأس…”. كانت السلسلة قد تناولت عدداً من القادة، مثل فلاديمير بوتين ومارين لوبن والبابا فرنسيس وشي جين بينغ ورجب طيب أردوغان، وخطر لنا أنه من الضروري وضع كتاب عن بشار الأسد انطلاقاً من مقاربة مشابهة. فقد اعتبرنا أنه من شأن الكتاب أن يحمل فائدة كبيرة للقراء الفرنسيين، والغربيين عموماً، بما يُتيح لهم تكوين فكرة عن شخصية الرجل الذي يقع في قلب النظام السوري الوحشي والوراثي والاستبدادي والفاسد والمذهبي إنما أيضاً الشديد التعقيد. وبما أنه كانت لدينا آراء متشابهة، إن لم يكن متطابقة، عن بشار وحكم آل الأسد على السواء، وعن هيكلية المنظومة السورية وشبكات النفوذ فيها، وضعنا الخطوط العريضة للموضوع المطروح ووزّعنا العمل في ما بيننا. ثم ناقشنا كلاً من الفصول عند الانتهاء منه، وضبطنا النص لتلبية الأهداف التي وضعناها. وكانت عملية التنسيق والضبط هذه الخطوة الأقل إرهاقاً.
أما بالنسبة إلى الأسباب التي دفعتنا إلى العودة إلى حقبة حافظ الأسد، فهي واضحة جداً. من المعلوم أن بشار الأسد أعلن، بعيد تنصيبه خلفاً لوالده، أن “الرئيس حافظ لايزال يحكم سورية من قبره”، وذلك في اجتماع للقيادة القطرية لحزب البعث، إنما أيضاً بحضور قادة الأجهزة الاستخبارية الأساسية. لطالما كانت الإشارة إلى حافظ الأسد أمراً لابد منه، لكن بشار كان مسكوناً أيضاً، وهذه مفارقة، برغبةٍ في “قتل” والده. بالطبع، لم يكن هدفه محو ذكرى والده، إنما أراد أن يطبع إرثه باسمه هو.
يونغ: ماالذي أتاح لنظام بشار الأسد الصمود في وجه الانتفاضة التي بدأت في العام 2011، وكيف سيؤثّر ذلك في سلطته مستقبلا؟
حديدي: تمكّن بشار من الصمود بفعل مزيج من العوامل الداخلية والخارجية. بيد أن السبب الأساسي هو التدخل العسكري الخارجي، الذي بدأ مع حزب الله في العام 2013، وتبعه الحرس الثوري الإيراني، قبل الانتشار الروسي في العام 2015. لقد أقرّ مسؤولون كبار إيرانيون وروس بهذا الواقع في مناسبات عدّة.
إلى جانب هذا التدخّل العسكري المباشر لإنقاذ النظام السوري، اتّبع النظام، على المستوى السياسي، نصيحة قيّمة أسدتها إليه أجهزة الاستخبارات الروسية وهي الإفراج عن أكثر من 1500 متشدد إسلامي وجهادي في مطلع أيار/مايو 2011، بينهم “النجوم الثلاثة” في سجن صيدنايا – زهران علوش وحسان عبود وأحمد الشيخ – الذين أنشأوا، على التوالي، التنظيمات المسلّحة الآتية: جيش الإسلام وأحرار الشام وجبهة النصرة. وكانت النتيجة صعود موجة إسلامية كادت تصادر الطبيعة الديمقراطية والعلمانية للاحتجاجات خلال الأشهر الأولى من الانتفاضة الشعبية، لابل أكثر من ذلك فرضت عسكرة الانتفاضة. وقد مهّد ذلك الطريق أمام الحصول على تمويل خارجي من بعض دول الخليج، كما أدّى لاحقاً إلى اعتماد المجموعات المعارِضة التي تتخذ من اسطنبول مقراً لها – المجلس الوطني السوري، والائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، والهيئة العليا للمفاوضات – على أفرقاء خارجيين.
السبب الثالث هو التركيبة المذهبية للجيش والقوى الأمنية. لقد حافظ الضباط العلويون على ولائهم التام للنظام، حتى ولو كان ذلك بدافع الخوف على طائفتهم في وجه صعود المجموعات الإسلامية ولاحقاً تنظيم الدولة الإسلامية. وفي الوقت نفسه، فشلت المعارضة في طمأنة الطائفة العلوية عموماً بشأن مستقبل البلاد في حال سقوط النظام. ومن النتائج الجانبية التي ترتّبت عن هذا الأمر، وهي ليست بالنتيجة الهامشية، أن الغالبية الكبرى من الضباط السنّة في الجيش أو القوى الأمنية الذين انشقّوا عن النظام، أقدموا على ذلك على أساس فردي نظراً إلى أن تأثيرهم داخل وحداتهم كان أدنى من تأثير الضباط العلويين.
يونغ: هلاّ لكم أن تلخّصوا لنا ماهي بنية السلطة الأساسية التي أرساها حافظ الأسد لضمان بقاء النظام بعد تسلّمه السلطة في العام 1970. وكيف كان أداؤها بعد انتفاضة 2011؟
حديدي: بعد أسابيع قليلة من الانقلاب العسكري الذي نفّذه حافظ الأسد في تشرين الثاني/نوفمبر 1970، عمد هذا الأخير إلى وضع تصوّر جديد للأقسام الثلاثة عشر في الجيش السوري (الذي كان يضم آنذاك نحو 325,000 جندي)، عبر جمع المهنيين العسكريين والمجنّدين إلزامياً وجنود الاحتياط معاً. وقد تمت إعادة تنظيم تسعة من أصل ثلاثة عشر قسماً في ثلاث فرق تابعة للجيش ومرتبطة بهيئة الأركان العامة. أما الأقسام الأربعة المتبقّية فقد أعيد تنظيمها على النحو الآتي:
سرايا الدفاع: كانت سرايا الدفاع، الموضوعة تحت إمرة رفعت الأسد، شقيق حافظ، تتألف من ثمانية ألوية للمشاة والمظليين، وتمتلك مدفعيات ثقيلة فضلاً عن دبابات ومروحيات. وكان عناصرها يتمتعون أيضاً بامتيازات خاصة في مجالات الرواتب والسكن وتعزيز مسيرتهم المهنية. وقد اشتهروا بالفظائع الكثيرة التي ارتكبوها، بما في ذلك مجزرة السجن في صحراء تدمر في حزيران/يونيو 1980، عندما قُتِل مابين 800 و1,000 سجين. وبعد المحاولة الانقلابية التي نفّذها رفعت الأسد في العام 1984، قرر حافظ الأسد حل سرايا الدفاع ونقل عناصرها إلى الحرس الجمهوري، والفرقة المدرّعة الرابعة، والقوات الخاصة.
القوات الخاصة: أُنشِئت في الأصل بمثابة فرقة للمظليين المحترفين، وكانت مسؤولة أيضاً عن حماية أمن النظام، مثلما حصل خلال حصار مدينة حماه والهجوم عليها في العام 1982. وقد حرص اللواء علي حيدر، الذي تولى قيادة القوات الخاصة لوقت طويل، على أن يواصل العلويون الاستحواذ على الأكثرية، فيما كان العناصر الآخرون يُجنَّدون من الأقليات البدوية في محافظة دير الزور، أي من الشوايا وفقاً للمصطلح الشائع. وعندما أظهر حيدر بوادر اعتراض على توريث بشار، سارع حافظ إلى دفعه نحو التقاعد.
الفرقة المدرّعة الرابعة: تتألف من ثلاثة ألوية مدرّعة ولواء مؤلَّل. وتتفوّق معداتها بأشواط كبيرة على معدات الفرق الأخرى، نظراً إلى أن الفرقة المدرّعة الرابعة أُنشئت للحلول مكان سرايا الدفاع وتُشكّل الحصن الأول للنظام. لهذا السبب، ينتمي أكثر من 80 في المئة من عناصرها (نحو 70,000 جندي) إلى الطائفة العلوية، فميا تتألف نسبة الـ20 في المئة الباقية من الدروز وحفنة من السنّة. على الرغم من أن هذه الفرقة تخضع رسمياً لإمرة علي محمد درغام، إلا أن قائدها الحقيقي هو شقيق بشار، ماهر الأسد، الذي يتولّى على الورق قيادة اللواء 42 مدرّع التابع للفرقة المدرّعة الرابعة.
وأخيراً الحرس الجمهوري: تأسّس في العام 1976 لحماية المقار والمواكب الرئاسية. وقد أوكل حافظ الأسد قيادته إلى عدنان مخلوف، ابن عم زوجته. وإذا كانت الأغلبية الساحقة من أعضائه من الطائفة العلوية، فهم يُختارون تحديداً من عشيرة الكلبية التي تنتمي إليها عائلة الأسد. وعندما بدأت الانتفاضة في العام 2011، كان الحرس الجمهوري يمتلك ثلاثة ألوية مؤلَّلة وفوجَين مهمتها حفظ الأمن داخل البلاد.
في مايتعلق بالأجهزة الأمنية، ورث بشار شبكة عملاقة من نحو 80,000 عنصر أمني، فضلاً عن مئات آلاف المخبرين الذين يعملون في الظل، ناهيك عن عشرات الآلاف من أعضاء حزب البعث ومايُسمّى بمنظمات التعبئة التي كان أعضاؤها يعملون بمثابة مخبرين تطوعيين. ونظراً إلى أن سورية تُقسَم إدارياً إلى أربع عشرة محافظة، و206 نواحٍ، و48 مدينة، يمكن للمرء أن يتخيّل حجم هذه الشبكة عندما يدرك أنه لكل جهاز من الأجهزة الأمنية الأربعة – إدارة الأمن العام، وشعبة الأمن السياسي، وشعبة المخابرات العسكرية، وإدارة المخابرات الجوية – فرعٌ في كل مدينة، وأقسام فرعية في كل منطقة، والعديد من الأقسام الفرعية داخل كل فرع في العاصمة والمدن الكبرى مثل حلب وحمص واللاذقية.
يونغ: بعد العام 2011، قال كثرٌ إن بشار الأسد ارتكب عدداً كبيراً من الجرائم بما يحول دون بقائه في السلطة بعد انتهاء النزاع. هل توافقون على أنه ثبت أن هذا الكلام غير صحيح؟
حديدي: أوافق، على الرغم من أنني اعتقدت بنفسي أن بشار ارتكب جرائم وفظائع كثيرة بحيث يستحيل إعادة دمجه في المجتمع الدولي، حتى من قِبَل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. إنما يجب النظر إلى كل ذلك في سياق أوسع، وهو أنه لم تُظهر أي قوة عالمية أو إقليمية صدقاً في مساعدة الشعب السوري على إسقاط النظام. من أكبر الأكاذيب مايُسمّى بـ”مجموعة أصدقاء الشعب السوري”، وعلى مستوى شخصي، لم أثق قط بأي قوة خارجية تدّعي دعم الانتفاضة السورية. اللافت أن رامي مخلوف، ابن خال بشار ومصرفي زمرة الأسد-مخلوف، هو أول مَن توقّع في أيار/مايو 2011 أنه لن تنعم إسرائيل بالاستقرار إذا لم تكن سورية مستقرة. لقد أدرك أنه من شأن مخاوف من هذا القبيل أن تجعل الدول الأخرى تُبدي حذراً في دعم خصوم الأسد.
يونغ: ماالذي دفعكم إلى التوجّه إلى المنفى في فرنسا؟ وما الدور الذي أدّته تجاربكم في مضمون الكتاب؟
حديدي: لقد فُرِض المنفى علي. طردتني الأجهزة الأمنية الأربعة من البلاد في الثمانينيات، إذ كنت عضواً في المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوري الذي كان معارِضاً للنظام. لقد زُجّ قادته والمئات من أعضائه في السجن. وكانت مغادرة سورية الحل الوحيد للحد من المشقات والضغوط التي كان النظام يمارسها على ذويّ وأصدقائي، فضلاً عن الصعوبات اللوجستية الكبرى التي كانت تترتب عن التخفّي في تلك المرحلة. غادرت سورية خلسةً متّجهاً إلى فرنسا، حيث أعيش اليوم، وهذا لم يكن خياري، بل كان ببساطة أول بلدٍ استطاع رفاقي أن يؤمّنوا لي تأشيرة لدخوله. غنيٌّ عن القول أن حياتي في سورية، لاسيما خلال السنوات الحافلة بالصعوبات والتجارب الغنيّة عندما كنت أمارس نشاطاً سرّياً، كان لها دورٌ كبير في مضمون الأقسام التي وضعتُها في الكتاب.