عندما ظهر «داعش» في المنطقة العربية في عام 2013، ترافق ظهوره مع صعود نظريات المؤامرة التي يبدو أنها وحدها التي نجحت في تفسير ظهوره ، وهي النظريات وحدها التي استقرت في الوعي العربي ومن خلفه الإسلامي.
اليوم وبعد الهزيمة العسكرية لـ «داعش» في كل من العراق وسورية، وإن كان ما زال يحتفظ بجيوب هنا وهناك في سورية منتشرة من دير الزور إلى درعا، تبدو في غاية الأهمية قراءة نتائج استطلاع الرأي العام الذي قام به المركز العربي للبحوث ودراسات السياسات لطرح الأسئلة المتعلقة بالتنظيم ومدى التأييد الذي يحصل عليه بين العرب. وقد نشرت نتائج هذا الاستطلاع الشهر الماضي.
تعتمد منهجية الدراسة الاستقصائية التي أجريت منذ عام 2012 على المقابلات الشخصية وجهاً لوجه مع أكثر من 17000 مستجيب يمثلون بلدانا عدة.
وقد طرحت أسئلة تتعلق بالتنظيم في وسائل الإعلام، لتحديد مدى معرفة الرأي العام العربي بـ «داعش» وحجم ومصادر المعلومات التي يكونها عنه، وكيف تتابع اخباره في الصحافة. وأظهرت النتائج أن «هنالك إجماعاً من المستجيبين (98%) على معرفتهم ودرايتهم بتنظيم «داعش». وعن وجهة نظرهم نحوه، أفاد 2% من المستجيبين أنّ نظرتهم إلى «داعش» إيجابية جداً، وقال 3% إنّ نظرتهم إيجابية إلى حدٍّ ما، في حين قال 92% إنّ نظرتهم تجاه هذا التنظيم سلبية جدًا وسلبية إلى حدٍّ ما. وفي المقابل أفاد 3% من المستجيبين بـ «لا أعرف» أو رفضوا الإجابة. ويؤكد التقرير في خلاصته أن «نسبة الذين أفادوا أنهم ينظرون بإيجابية كبيرة نحو داعش كانت 2% من المستجيبين، وهي نسبة منخفضة جدّاً، تقع ضمن حدود هامش الخطأ، في كل مجتمع من المجتمعات المستطلعة».
إذا قارنا ذلك باستطلاعات الرأي العام المماثلة في الولايات المتحدة، سنجد عددا أقل من المواطنين الأميركيين على دراية تامة بما يعنيه «داعش» على الرغم من مشاركة الحكومة الأميركية في الحرب ضده، ليس فقط في سورية والعراق، ولكن في دول أخرى مثل ليبيا واليمن. كما نفذت الولايات المتحدة ضربات جوية في الصومال أيضاً ضد «داعش».
وزادت الولايات المتحدة منذ وصول ترامب إلى سدة الرئاسة في البيت الأبيض من حجم انخراطها في الضربات الجوية والعسكرية ضد التنظيم، وتمكنت من القضاء عليه في الرقة «عاصمة الخلافة»، وإن كان ثمن تحريرها مكلفاً جداً بالنسبة إلى المدنيين، وبالنسبة إلى البنية التحتية في المدينة التي أشارت تقارير للأمم المتحدة أنها لن تكون صالحة للسكن في وضعها الحالي، وربما تحتاج إلى سنوات قبل رفع ركام الأنقاض فيها.
تظهر نتائج المؤشر العربي أن الرأي العام العربي يكاد يكون مجمعاً تقريباً على رفض «داعش»، وإذا تحققنا من نسبة 2٪ وحاولنا أن نفهم سبب هذا الموقف الإيجابي، فسوف نجد أنه موقف مضاد للتدخل الغربي بدلاً من تأييد «داعش»، وهذا يعني أن هذه النسبة ترفض التدخلات الدولية والضربات الأميركية وترى في «داعش» كياناً يعارض السياسة الأميركية ولا تفضل التنظيم وأعماله بحد ذاتها، فهذه النسبة تعبر عن «رأي سياسي أو موقف سياسي».
مع تزايد مشاركة الولايات المتحدة في العراق وسورية ومع تضاعف عدد القوات الأميركية على الأرض، وصلت الحالة في هذه الدول إلى مستوى أشبه بالكارثة الإنسانية خاصة في سورية والعراق، مما يجعل الرأي العام تجاه أي شيء يتعلق بهذه البلدان في وضع صعب للغاية تكتنفه انطباعات حادة ضد التدخلات الغربية، بدلاً من رؤية «داعش» فقط. في سورية كمثال، حيث وجد «داعش» في عام 2013، نزح ما يقرب من نصف السكان. وقد فر نحو 5 ملايين لاجئ إلى البلدان المجاورة كلاجئين و7.6 مليون شردوا داخلياً. ولا تزال سورية بسبب هذا العدد الكبير من اللاجئين والمشردين في قائمة البلدان الهشة جداً بالنسبة إلى أيديولوجية «داعش».
إذا انتقلنا إلى نقطة مهمة مختلفة، حول تفسير سبب ظهور «داعش» بعيداً من نظريات المؤامرة. لوجدنا أن «أهمّ سببين يعكسان حضوراً أو قوةً أو شعبيةً لهذا التنظيم بين مؤيديه» في التالي: «أفاد 17% من المستجيبين أنّ إعلان الخلافة الإسلامية يُعدّ أهمّ عنصر من عناصر قوة تنظيم داعش بين مؤيديه. في حين أفاد 16% بأنّ الالتزام بالمبادئ الإسلامية هو أهمّ عناصر قوة التنظيم بين مؤيديه. وأفاد 13% من المستجيبين بأنّ الإنجازات العسكرية التي حققها التنظيم هي السبب الرئيس لقوته بين مؤيديه. وقال 11% من المستجيبين إنّ أهمّ عنصر من عناصر قوة التنظيم هو استعداده لمواجهة الغرب، في حين أفاد 10% بأنّ قوله إنه يدافع عن أهل السنة هو أهمّ أسباب قوته، وركّز 6% من المستجيبين على قتاله لميليشيات وجماعات مسلحة أخرى. وفي حين ركّز 5% على قوله بالاستعداد لمواجهة إيران، أفاد 4% من المستجيبين بأن معاداته للنظام السوري و/أو العراقي هي عنصر قوته الرئيس». أي أنّ نحو ثلث الرأي العامّ ركّز على عوامل دينية أو مرتبطة بالدين، بوصفها أسباباً لأهم عناصر قوته بين مؤيديه، في حين ركّز أكثر من نصف المستجيبين على عناصر سياسية مرتبطة بالأوضاع القائمة في منطقة المشرق العربي والإقليم.
يمكن القول في النهاية إن «نظرية المؤامرة» في ظهور «داعش» شبه اختفت، وتدل أرقام المؤشر العربي على أن هناك وعياً بظروف خروجها ونهايتها، وهو ما يدل على أنه كلما ارتفع مستوى التعليم والمعرفة كلما انخفضت نسبة الإيمان بنظرية المؤامرة، ومن هنا تأتي أهمية استطلاعات الرأي هذه لأنها تساعد على جلاء «الحقيقة» وتزيد من نسبة الإيمان بالأدوات العلمية للتعامل معها في شكل صحيح وتخفف الإيمان «بالخرافة» وتضعها في حجمها الطبيعي كتفسير لا عقلاني لظواهر عقلانية.
* كاتب سوري