مناف الحمد
لا تكاد تطأ تلك الأحياء في دمشق القديمة (التي كانت تُسمّى داخل السور) حتى تدرك أنك تلج عالمًا ذا قسمات مغايرة كليًا للعالم الذي يقع خارجها.
يكرّس الشعور لديك بالتغاير تجربة الانخراط في حلقات العلم الشرعي التي تُتداول فيها الكتب الصفر، المحتوية -من دون شك- على تراث بالغ الأهمية والثراء، ولكن الدهشة تأخذك، وأنت تحاول عبثًا مدّ الجسور بين العالم الذهني خارج السور، والعالم الذهنيّ داخله.
ففي الأخير يقين لا يعتوره أدنى شك في أن الحقيقة المطلقة موجودة في ثنايا حواشي الكتب الصفر، وأن كلّ ما يرد عليها من اعتراضات ليس إلا شُبهًا تغزو قلوب الجاهلين، أو المضلّلين، أو الأغرار.
في سنّ مبكرة عندما كنا طلابًا للشيخ البوطي، لم نكن مدركين أن الرجل يلقّننا مفهومًا قاصرًا للحقيقة، مستجلبًا من العصور الوسطى، فقد كان يؤكد مفهوم المطابقة الذي بات بالمقاييس المعاصرة مفهومًا متخلفًا.
وهو قاصر؛ لأنه يطابق بين الخطاب والحقيقة، وبين الدالّ والمدلولّ؛ الأمر الذي يجعل المعرفة التي يوصل إليها صادقة، وكليّة، وضرورية، وهو تصوّرٌ عدا عن أنه قاصر، مفضٍ حتمًا الى الراديكالية.
أما التصور المغاير للمعرفة، فيقوم على عد الحقيقة معطىً غير جاهز، وإنما عدّها شيئًا مصنوعًا، لا تطابق رموزه طبائع الأشياء، إنها فاعلية إنسانية، تنتج التشاكل عن طريق إضافات منطقية ورياضية بين الرموز (بما هي أعيان الأسماء)، والمرموزات (بما هي أعيان المسميّات).
وكنا نحاول الاحتماء بحججه التي يناقش بها المادية الجدلية، ونظرية التطور؛ خشية تسرب الشكوك إلى مكمن يقيننا الديني، وقد أدركنا متأخرين أن نقاشه للنظريات الفلسفية كان نقاشًا بدائيًا لا يعبر إلا عن ضحالة في فهمها إذا أحسنّا الظن، أو تسطيح مقصود إذا أسأناه.
وكنت ترى في دروسه شبابًا بوجوه حائرة، قادمين من العالم الآخر بأزيائهم الحديثة، وذقونهم الحليقة يبحثون عنده عما يسكّن شكوكهم بعد أن قدّم نفسه منافحًا عن الإسلام في وجه التيارات غير الدينية، ولكنّ كثيرين منهم لم يكونوا يخرجون بما جاؤوا لأجله؛ لأن الرجل كان يصدر عن قناعة بالاستدلال البرهاني، غافلًا عن حقيقة أن الاستدلال البرهانيّ الذي يزعمه ليس برهانيًا مجردًا؛ لوقوعه -ككلّ خطاب استدلاليّ- تحت سطوة اللغة الطبيعية التي تقلّب مضامين الخطاب، وتغيّر دلالاته، وتحيل مضمونه في أولّ النص غيره في وسطه، وخلافه في آخره.
وفي العالم نفسه، ولكن في مكان أكثر تجسيدًا للانفصال بين العالمين كنت تجد حذرًا مبالغًا فيه من أيّ مصطلح جديد؛ لأن القاعدة أن المصطلحات الوافدة من الغرب إنما هي أدوات غزو فكري (بحسب تعبير كان أثيرًا لدى قادة الرأي في هذا العالم)، فتصبح متوجسًا خيفة من مصطلح العلمانية، ومتحفّظًا على مصطلح الديمقراطية، وغيرَ آبه لمفهومات الليبرالية؛ لأنك تطوي تحت جناحك ما يغنيك، وينجيك في حياتك الدنيا وفي الآخرة.
صحيح أن العالَم الآخر خارج السور بما يموج به من تيارات أخرى تقترب، أو تبتعد كثيرًا، أو قليلًا عن العالم الذي تحدثنا عنه لم يكن رواده أقلّ راديكالية في كثير من الحالات، ولكن الأخيرين لم يكونوا يملكون الخطاب التداولي الذي يمكّنهم من مزاحمة محتكري الحقيقة في العالم القروسطي، ولذلك؛ كانوا أقل تأثيرًا وقدرة على التجذر، والمهم أن القادة وأتباعهم في كلا العالمين كانوا يمارسون استعلاء متبادلًا يكرّس الانفصال، ويحيله إلى حرب ضروس يصعب أن تجد لها تسوية.
إن التصنيف الذي نعثر عليه في علم اجتماع الدين، للمنتمين إلى الدين هو: الرواد وهم مؤسسو الدين، والأمناء- وهم الذين يتوقف وجودهم الاجتماعي على الصدارة الدينية باستيعاب مقولات الدين وتفسيرات نصوصه، وهم نتاج وسط اجتماعي على عكس المؤسسين الذين ينتجون وسطًا اجتماعيًا جديدًا- والمستهلكون وهم أتباع الدين.
يوضح هذا التصنيف أن بعض الأمناء هم أصحاب المصلحة في إغلاق الدين على الانفتاح نحو آفاق قد تهدد مواقعهم في الصدارة، وتوقعهم في حرج يذهب بهيبتهم؛ لما يمكن أن يواجههم به الانفتاح من حقيقة جهلهم بحقول لا يعرفونها.
إن الفراغ بين العالمين (بحكم نزوع طبيعي في الفراغ للبحث عن شاغل له) قد أفسح المجال للتطرف الرافض للعالَمين أن يتصدر المشهد، وهو ما وجد تسويغًا له منذ البداية في موقف بعض الأمناء المنسجمين مع أنفسهم بتسويغ ممارسات المستبدّ بمقولات تراكم عليها الغبار، وأحالها إلى سخرية بحقوق البشر الأساسية.
نحتاج إلى خطاب تداولي مشترك يبدد حيرة الوجوه الحائرة، ويجسر الهوة بين العالَمين، ويمتح من كلّ الموسوعة المعرفية والثقافية المعاصرة، ويقضي على احتكار قادة العالم الذهني داخل السور للحقيقة المطلقة، وعلى استعلاء قادة العالم الذهنيّ خارج السور غير المبرر على غيرهم، فقد كان فقدان هذا الخطاب المشترك مقتلًا، ساعد جلادنا في الإمعان في ظلمنا، وقهرنا، ومنعنا من نيل حريتنا، واسترداد كرامتنا.