المصدر: رسالة بوست
قامة من القامات الوطنية التي لم تغيره الأحداث ولا الأيام بل بقي ثابتًا على موقفه يزأر ليل نهار على جميع المنابر ضد الطغمة الحاكمة في سورية، لم تفتنه الأضواء ولم تفت في عضده التقلبات، بل زادته تمسكًا بحق الشعب في مطالبته بالحرية والعدالة.
رفض الدخول في الاستقطابات وبقيت أنظاره تشرأب إلى هدف واحد، أن يكحل عينيه برؤية سورية حرة ديمقراطية، يعيش في جنباتها كل الأطياف، والأعراق، والاثنيات، على مسافة واحدة من القانون والدستور.
إنه الأستاذ جورج صبرة .
رسالة بوست استضافته ليحدثها عما آلت إليه سورية بعد نحو عشر سنيين من القتل والتشريد والتهجير….
1) إلى أين وصلت الثورة السورية بعد نحو عقد من الزمن ذاق شعبها كل ألوان العذاب من قتل إلى اعتقال إلى تشريد إلى تهجير…؟
لا زالت الثورة مثل الثورات الكبرى في التاريخ، تتابع مسيرتها من أجل تحقيق أهدافها، من خلال الظروف الصعبة، والمعقدة والكبيرة التي يقدمها الشعب السوري.
وقد استطاعت تحرير الإنسان السوري من الصمت، والتسلط والانصياع، وعرّت النظام وأدواته وركائزه وداعميه، فهي تستمر لتحقيق الهدف الأكبر، وهو إسقاط النظام وإنجاز الشروط والظروف لتحقيق إرادة الشعب بولادة سوريا الجديدة، التي تحقق نداء الثوار الذي انطلق منذ اليوم الأول للثورة، أي الحرية والكرامة.
2) ما رأيكم بثلة ما تسمى ,,(كنا عايشين)،، والذين ألقوا المسؤوليّة في دمار سوريا على عاتق الثورة؟
إن الواقع والمجريات داخل البلاد في الآونة الأخيرة، وفي المناطق التي يسيطر عليها النظام، أعطت جوابًا مفحمًا لهؤلاء، وكشفت لهم أي نوع من الحياة يتحدثون عنها تحت مقولة (كنا عايشيين)، وها هي تظاهرات السويداء التي تطالب بإسقاط النظام، والتحركات الثورية متعددة الأشكال، التي تحدث في محافظة درعا، رغم ما سمي بالمصالحات، تثبت لكل ذي بصر وبصيرة، أن الثورة كانت وما زالت الخيار الأمثل بل الأوحد للسوريين من أجل خلاصهم، من التسلط، والقهر، واستعادة حقهم في بناء وطنهم وترتيب شؤون حياتهم، بإرادتهم الحرة وفي ظروف من الحرية والكرامة والعدل، أهدرها النظام الفئوي لنظام آل الأسد، وانتهكها لخمسة عقود.
3) من خلال المناخ السّياسي الإقليمي والدولي المتوتر هل ترون هناك من أمل يلوح في الأفق لتغيير هذا النظام مع التذكير بتصريح جيفري مؤخراً بأنَّ أمريكا لا تريد تغيير النّظام وإنما تريد تغيير سلوكه؟
إن تغيير النظام ليس من مهام الدول الأخرى، ولم يطالب السوريون بذلك، بل طالبوا بحقهم في الدفاع عن أنفسهم، أمام آلة الموت المنفلتة التي أطلقها النظام وداعموه ضد الشعب، طالبوا بتطبيق القرارات الأممية ذات العلاقة وشعارات حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، والثورة السورية لم توفر جهدًا وتضحيات من أجل ذلك، قدمت أبرز الوقائع في سلميتها ونبل أهدافها، وتصميمها على تحقيق إرادة الشعب، تحت عنوان الشعب يريد، وعندما حملت السلاح للدفاع عن الشعب، أظهرت استحقاقها للنصر ودعم كل الأحرار في العالم، لكن الظروف الدولية والإقليمية التي استفحلت تعقيدًا، لعبت دورها السلبي ضد الثورة وأطالت أمد الصراعات، والآمال بالتغيير كبيرة، بعد التهتك الفاضح للنظام، والذي وصل إلى بنيته وعصابة الحكم، كذلك عجز الداعمون عن إعادة تأهيله، فقد أصبح النظام عالة على الجميع، أولئك الذين سكتوا عن أفعاله، وقاتلوا من أجله، وإرساله إلى مثواه الأخير، مسألة وقت ورهن بالتوافقات الدولية.
4) أسس غاندي سياسة المقاومة السلمية، أو اللاعنف ضد المحتل والهدف في رأيه هو إبراز ظلم المحتل من جهة، وتأليب الرأي العام على الظلم من جهة ثانية تمهيدًا للقضاء عليه كلية، أو على الأقل حصره والحيلولة دون تفشيه.
هناك من انتقد عسكرة الثورة ورأى أن نحاكي نهج غاندي ونسير على خطاه.
ما رأيكم بهذا الطرح هل يمكن أن ينجح ضد نظام الأسد وهل هناك تشابه بين الحالتين؟
لم تقصر الثورة السورية في سلميتها، فأكثر من ستة أشهر والرصاص ينهمر على صدور المتظاهرين العزل في معظم المحافظات، وقدمت نموذجًا للحراك السلمي لا يقل نبلًا وتضحيةً عن الغاندية، فهل واجه غاندي من المستعمر الإنكليزي ما واجهه الشعب السوري من نظامه؟!
ولم يكن حمل السلاح خيارًا للثورة، وإنما فعل ضرورة للدفاع عن شبابها، فالعنف المتوحش الذي مارسه النظام، والمجازر الجماعية التي ارتكبها، والانشقاقات العديدة في المؤسستين العسكرية والأمنية، أدت إلى حمل السلاح، وهو حق طبيعي ومشروع للدفاع عن النفس في كل الشرائع، فأي تثريب على حمل السلاح بوجه نظام قاتل، ومتوحش استخدم أسلحة الدمار الشامل والمحرّمة دوليًا، في مواجهة شعبه، الذي يتظاهر شبابه سلميًا، يصفقون بأيديهم ويهتفون بحناجرهم.
5) ثمَّة كثير من المثقفين والمفكرين العلمانيين، وعلى رأسهم أدونيس ناهضوا الثورة السورية بذريعة أنها خرجت من المساجد وساندوا الاستبداد والطغيان؟
ما تقييمكم لهذه المواقف؟
هؤلاء منحازون لنظام القتل كلّ لأسبابه، ويريدون تمويه خيارهم ودائرة مصالحهم، وعندما سمعنا بهذه الترهات في بداية الثورة، قلنا لهم دلونا على مقرات أحزابكم أو جمعياتكم أو نواديكم، والمراكز الثقافية التي تعملون فيها، لنتجمع فيها وتنطلق منها المظاهرات، فالنظام صحّر الحياة السورية وصادر إمكانية الحراك المستقل في المجتمع، واستولى على كل أجهزة الدولة، والمؤسسات والنقابات ،والاتحادات الاجتماعية، ولم يبقَ أمام السوريين إلا المساجد المفتوحة مكانًا للقاء والانطلاق، وهنا أعيد ما قلته في ذلك الوقت، شكراً للمساجد لأنّها فتحت أبوابها لتخرج منها الثورة.
6) إذا نظرنا إلى الدَّول المتحضرة الدّيمقراطية كألمانية وغيرها…نجد أنّه لا بأس عندهم في وصول مستشارة إلى سدة الحكم تنتمي إلى حزب ذي صبغة دينية، في حين نجد حساسية مفرطة لدى الدّول العربيّة إزاء الإسلاميين المعتدلين والذّين يقبلون بصناديق الاقتراع.
كيف تفسر لنا هذه الظاهرة؟
الأحزاب الديمقراطية المسيحية في أوروبا ليست أحزاب دينية، والحاكم عندهم لا يحكم بإرادته وأهوائه، إنما وفق الدستور القائم والقوانين المعمول بها، والمقرة دستوريًا وشعبيًا، وهي موضع توافق بين جميع مكونات الشعب، وأي تجديد فيها، يتم بإرادة الشعب، وحق الرفض والمعارضة مضمون للجميع في ظل سيادة القانون والقضاء المستقل، ليس من حق أحد أن يعترض على مشاركة الآخرين، كائنًا ما كانت مرجعيتهم الفكرية والسياسية، ومن المؤكد أن التطرّف الإسلامي وتطرف العلمانيين وجهان لعملة واحدة في نشر ثقافة الرفض للآخر، وحرمانه من حقه في الوجود والتعبير والتحرك، وهو ما يضيف عقبة إلى جانب العقبات الأخرى التي تواجه التغيير الديمقراطي في بلادنا، فالدولة التي تقف على مسافة واحدة من الجميع، ويتم تداول السلطة فيها دستوريًا وفي إطار سيادة القانون، والقوانين العصرية التي تحكم الحياة العامة، وتنظم الأحزاب، والمنظمات السياسية وتشرعنها، كفيلة بإزالة المخاوف والخروج من هذا الاستعصاء.
7) صنفت الكتب الكثيرة حول الثورة السورية وكان من أهمها كتاب (درب الآلام نحو الحرية) للدكتور عزمي بشارة، وكتاب
( التراجيديا السورية) للمفكر الراحل سلامة كيلة وكتاب (عطب الذات) للدكتور برهان غليون.
هل ترى هذه الكتب، أو غيرها مما اطلعتم عليه قد شخص الحالة السورية بشكل واضح ووضع يده على الداء والدواء؟
أم ثمة قصور في النتاجات السياسية لا ترقى إلى مستوى الثورة وتكبو دونها؟
شخصياً قرأت كتاب الدكتور عزمي بشارة وكتاب الدكتور برهان غليون، وفيهما جهد طيب وعلمي ومسؤول عن وقائع الثورة ومجرياتها، والظروف الذاتية والموضوعية التي أحاطت بها، وفيهما في الوقت نفسه، ما يمكن مناقشته والحوار معه ومواجهته بالاختلاف والوقائع الأخرى، فليس لأي كاتب أو كتاب، ولا من مهامه أن يضع يده على الداء والدواء كما يقول السؤال، وخاصة في حالة الثورة السورية وتعقيداتها والتدخلات الكبيرة في مجراها، والظروف العامة والخاصة التي تستمر فيها منذ عقد من الزمن.
فالأمور منوطة بالإنتاج المتعدد للعديد من الكتاب، ومساهمات المفكرين والسياسيين والباحثين ونشطاء الثورة، وأعتقد أن استقامة الأمر والاستنتاجات تحتاج للمزيد من الوقت لانكشاف الأمر والحقائق من جميع جوانبها.
8) هل واكب الأدب والأدباء الثورة السورية إن كان شعرًا أو نثرًا واستطاعوا أن يفضحوا عورات النظام المتمثلة في إيغاله في سفح وسفك الدماء البريئة، أم أن أقلامهم أعلنت عجزها أمام تلك الفظائع؟
واكب الأدب والأدباء المؤيدون للثورة ووقائع ثورتهم، وشاركوا فيها وشكلوا رابطة الكتّاب السوريين كمنظمة تجمعهم وتعبر عنهم، مستقلة عن اتحاد كتّاب العرب، الذي تهيمن عليه السلطة وتوجهاتها.
لكنني أعتقد أن الرفض الأدبي المتعدد الأشكال في فضاء الثورة يحتاج لبعض الوقت من أجل التفاعل والاختمار والإثمار أيضا.
ويجدر بنا هنا أن نقدم التحية لنخبة أدباء الثورة على جهدهم، وعلى صوتهم الذي أغنى الثورة، وأنصف تضحيات الشعب، كنوري جرّاح، وأنس الدغيم، والفنان سميح شقير، وابتسام صمادي، وياسر الأطرش….
9) كثر الكلام والآراء والتحليلات إثر صدور قانون قيصر بين متفائل وبين متشائم.
هل ترون أنَّ هذا القانون يمكن أن يهز عرش النظام أو ينسفه؟
الوقائع والمجريات على الأرض التي حوّلت حياة الناس إلى جحيم، هي التي هزت النظام وتهدد استمراره، وصار واضحًا للجميع أن النظام أصبح عبئًا على الجميع ومصدر عار لهم، ويأتي قانون قيصر ليزيد طينة النظام بلة، وليلعب دوره في منع محاولات إعادة تأهيله، التي يعمل عليها الروس والإيرانيون، ووضع حد لإعادة العلاقة معه، أو المشاركة في إعادة الإعمار من خلال وجوده.
10) أخيراً كيف تحلمون بسورية الجديدة؟ وكيف تتوقعون أن تكون على أرض الواقع بعيداً عن الطوباوية؟
ببساطة أحب أن أرى سوريا، كما بناها الجيل المؤسس من آبائنا، جيل الاستقلال، مع التحديثات المعاصرة، وأن تكون دولة مدنية ديمقراطية تعددية، تقوم على الحياة الدستورية وسيادة القانون والحقوق المتساوية لجميع مكونات الشعب وأفراده.
كما أشتهي أن أرى في بلدي، الإعلام الحر، والصحافة متعددة الاتجاهات، وأن أزور الأحزاب في مقراتها العلنية، وأريد أن أشارك في التجمعات، والمظاهرات دون خوف من اعتقال أو خشية من رصاص، وأن أقول أنا لا أحب الرئيس إذا كنت لا أحبه، وأعارض هذا القرار، وذاك الحزب إذا كان رأيي كذلك، دون أن يكلفني ذلك سنين من عمري في السجن أو حياتي كلها، كما أحب أن أنتخب بإرادتي الحرة، ممثليّ في النقابة وفي البلدية وفي البرلمان وفي الرئاسة، فأنا السبعيني لم أشارك في أي انتخابات في بلدي طيلة عمري، وما زلت أشتهي أن أفعل ذلك.
حاوره مدير الأخبار
نعيم مصطفى