بيلور أصلان أوزغول، أستاذة العلوم الاجتماعية والسياسية في جامعة برونيل، لندن، تعقد الكثير من الصلات بين النظامين المصري والسوري، في مستويات البنى السياسية والعسكرية والإيديولوجية؛ ثمّ في أنساق وطبائع أنشطة الشباب المعارضة، خاصة بعد 2011 وأطوار الانتفاضة الشعبية في البلدين. كتابها، الذي صدر قبل أيام عن Palgrave Macmillan بعنوان «قيادة الاحتجاجات في العصر الرقمي: النشاط الشبابي في مصر وسوريا»، يستحق وقفة أخرى مطولة لا يتيحها المقام هنا؛ بالنظر إلى أهمية الموضوعات التي تتناولها (البنية السياسية، اقتصاد السوق، المجتمع المدني، الصحافة، «ربيع دمشق»، الإسلام السياسي، سوريا بوصفها «مملكة الصمت»…)؛ وكذلك سلسلة الإشكاليات التي تقترن بالمقارنات، ذاتها، بين أنظمة جمال عبد الناصر وأنور السادات وحسني مبارك من جهة، ونظام «الحركة التصحيحية» كما دشنه حافظ الأسد واستكمله وريثه بشار من جهة ثانية.
غاية هذه السطور، استطراداً، هي التوقف عند محور حزب البعث السوري، الذي تميل أوزغول إلى وضعه في مصافّ «الإيديولوجية المؤسسة» أو أو «البعث الكلاسيكي» الذي لا يمكن فهم البنية السياسية في سوريا من دون تحليله: «هدف مؤسسو حزب البعث إلى إيقاظ الأمة العربية من سباتها، وإلى توحيد الشعب الذي كانت الإمبريالية قد قسمته إلى دول عديدة». وفي هذا الصدد، «حين تأسس حزب البعث كانت نيّة مؤسسيه الأصلية هي ردم الهوّة الطبقية والطائفية التي قسّمت السوريين وأبقتهم ضعفاء طوال عقود»؛ تكتب أوزغول، متكئة كثيراً على خلاصات رايموند هاينبوش، الباحث المعروف المتخصص في شؤون سوريا الحديثة والمعاصرة. كذلك تبدو أوزغول أكثر ارتياحاً إلى مقولة (تبسيطية في الواقع، على الأقلّ عند هذه المرحلة من دراستها)، مفادها أنّ زعماء البعث «لم يفضّلوا جماعة على أخرى»، وكانت «الجماعة السورية العلوية» في وضعية متواضعة نسبياً كجماعة أقلية، «على غرار الشيعة، والدروز، والإسماعيليين، والأرثوذكس، والموارنة المسيحيين».
هذه البنية السياسية تبدلت مع «ثورة النيو ــ بعث» حسب توصيفها، في شباط (فبراير) 1966، التي «حوّلت الجماعة العلوية إلى واحدة من تمركزات السلطة الرئيسية في سوريا»؛ الأمر الذي سوف يذهب فيه حافظ الأسد خطوات أبعد في أعقاب انقلاب تشرين الثاني (نوفمبر) 1970، حيث «استولى على الرئاسة وبالتالي مكّن كتلة الضباط العلويين من الوصول إلى مراكز القيادة الأبرز». ولكنها، معتمدة كثيراً على كتاب نيكولاس فان دام الكلاسيكي «الصراع على السلطة في سوريا»، لا تجادل في أن حافظ الأسد سعى في البداية إلى «إنجاز سوريا علمانية عربية قومية مماثلة لرؤية مؤسسي حزب البعث»، ولكنه عملياً «لم ينجح في تحقيق هذا الهدف المثالي بسبب حقائق السلطة السياسية في سوريا»!
التبسيط هنا، وفي هذه المرحلة تحديداً من دراسة أوزغول، يبدأ من تجاهل واقع الديناميات التي كانت قرينة «الحركة التصحيحية» منذ الأشهر الأولى لاستيلاء الأسد الأب على السلطة؛ والتي كان أبرزها تقديم ضابط الأمن وضابط الجيش، خاصة إذا انتمى إلى الطائفة العلوية، على كلّ ما عداه من رجالات السلطة، سواء في قيادة الحزب الحاكم القومية والقطرية وفروعه في المحافظات، أو «المنظمات الشعبية» في قطاعات العمال والفلاحين والطلاب والشبيبة والمرأة والرياضة، أو أجهزة الدولة المدنية الأخرى. هذا هو «التصحيح» البنيوي، ضمن سلسلة تصحيحات أخرى لم تستهدف تدعيم أركان حكم الأسد الأب على نحو «وقائي» أو «مرحلي»، كما خُيّل للبعض آنذاك؛ بل على نحو منهجي طويل، سوف تتعاقب آثاره وتتجلى عواقبه على مدار 50 سنة من سلطة آل الأسد.
ثمة عناصر بنيوية لا تستقيم دراسة حزب البعث السوري، في نطاق الأكاديميا الغربية على وجه التحديد، من دون التوقف عندها؛ بتعمّق ملائم، وإحاطة سياسية واجتماعية وثقافية جدلية، بعيداً عن تبسيط المركّب بوسائل الكليشيه والمقولات المعلبة
ولعلّ أبرز «التصحيحات» كانت مقاربة الأسد الأب المستجدة لمفهوم حزب البعث ذاته، وطبيعة تركيبته العقائدية والطبقية، ودوره في أبجديات الحكم. ذلك لأنّ هذا الحزب لم يكن جماهيرياً في أيّ يوم، ليس بمعنى افتقاره إلى التأييد الشعبي فحسب، بل بمعنى بنيته النخبوية ونظامه الداخلي الذي يجعل التنسيب والانتساب عملية معقدة أقرب إلى اختبار السحرة. وفي أزمنة «المجموعة القومية»، أيّام ميشيل عفلق وصلاح البيطار وأمين الحافظ؛ كما في أزمنة «المجموعة القطرية»، أيّام حركة 23 شباط ومجموعة صلاح جديد ويوسف زعين؛ ساد اليقين بأن التنسيب الواسع للأعضاء الجدد سوف يؤذي جسم الحزب ويتسبب في تمييع خطه السياسي وتركيبه الطبقي. ولهذا كان التركيز شديداً على ما عُرف آنذاك بـ»المنبت الطبقي» للمرشح، وجرى تفضيل أبناء الطبقات الكادحة على أبناء الأغنياء من الإقطاعيين والبرجوازيين.
تصحيح الأسد تمثّل في فتح باب الحزب على مصراعيه أمام المنتسبين الجدد أيّاً كان منبتهم الطبقي، بل وجعل الانتساب إلى الحزب أمراً لا غنى عنه من أجل ضمان القبول في المعاهد والجامعات، وضمان الحصول على الوظيفة؛ وكان الغرض المضمر هو تضييع الخطّ السياسي، وتمييع التركيب الطبقي. وبالفعل، لم يمضِ وقت طويل حتى انقلب الحزب إلى مؤسسة انتهازية نفعية خاضعة للأجهزة الأمنية، وسرعان ما انخرط أعضاؤه في تعامل مباشر أو غير مباشر مع مختلف فروع الاستخبارات، وأخذوا يعتبرون كتابة التقارير الأمنية واجباً تنظيمياً، فدانوا بالطاعة إلى رئيس فرع المخابرات أكثر بكثير من طاعتهم لأمين فرع الحزب.
التصحيح الثاني اتخذ صيغة تضخيم الأدوار الموكلة إلى «المنظمات الشعبية»، ومنحها ميزانيات وصلاحيات وإطارات عمل كفيلة بضمان استقلالها عن الحزب الحاكم، من جهة؛ وسهولة خضوعها تالياً لتوجيه الأجهزة الأمنية والعسكرية، من جهة ثانية. وهذه المنظمات ظلت تعمل بالتوازي مع «اتحادات مهنية» تضمّ المحامين والأطباء والمهندسين والأدباء والفنانين، وكان من الطبيعي تماماً أن تشرف الأجهزة الأمنية على انتخابات هذه المنظمات، وأن يكون التقييم الأمني هو المعيار الأساسي في اختيار المرشحين لقيادة العمل. ولقد تمّت عمليات «عسكرة» مباشرة لبعض هذه المنظمات، كما جرى في مطلع الثمانينيات حين تولّى رفعت الأسد ومفارز «سرايا الدفاع» تدريب الشبيبة على القفز المظلي مقابل إعفائهم من معدّل الدرجات المطلوب للانتساب إلى كليات الطبّ والهندسة. كذلك تمّت عسكرة اتحاد الطلبة عن طريق إلزام الطلاب الجامعيين بأداء التدريب العسكري المستمرّ.
التصحيح الثالث كان الأكثر خبثاً ربما، وتمثّل في استحداث منظمة شعبية جديدة باسم «طلائع البعث»، تشرف على التربية السياسية للأطفال في سنّ 6 ــ 11 سنة. ولأنّ الانتساب إلى هذه المنظمة كان إجبارياً وجزءاً من منهاج التعليم في المرحلة الابتدائية، فقد شبّت أجيال كاملة على العبارة الكليشيه: «بالروح، بالدم، نفديك يا حافظ!»؛ وكان الأطفال يكبرون وهم يستدخلون عبادة الفرد وكأنها مبدأ وطني وتربوي طبيعي تماماً، يجعل من «الأب القائد» الوحيد القادر على حكم الأهل والمجتمع والوطن. ولأنّ 49٪ من سكان سوريا كانوا فتياناً أقلّ من 15 سنة، فإنّ هذه المنظمة لعبت دوراً حاسماً في تنشئة الأجيال الجديدة على زعيم واحد وسياسة واحدة، وجهدت كي تكون هذه التربية بمثابة لقاح مبكّر يحول بينهم وبين التقاط مرض السياسة حين ينتقلون من مرحلة إلى أخرى في الدراسة والعمر والوعي.
هذه، وسواها أخرى لا تقلّ أهمية، هي بعض العناصر البنيوية التي لا تستقيم دراسة حزب البعث السوري، في نطاق الأكاديميا الغربية على وجه التحديد، من دون التوقف عندها؛ بتعمّق ملائم، وإحاطة سياسية واجتماعية وثقافية جدلية، بعيداً عن تبسيط المركّب بوسائل الكليشيه والمقولات المعلبة، حتى إذا أتت هذه من باحثين لا يُشق لهم غبار، أمثال فان دام وهاينبوش. فكيف في أطوار ما بعد 2011، حين يرى كثيرون أن هذا الحزب بات أقرب إلى أثر بعد عين!
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس