موسم النقاش مزدهر بعد عقود من تسلط الرأي الواحد والعقم والبروباغندا. والمواضيع حارة حال العرب اليوم: عودة القوى والقواعد العسكرية الأجنبية إلى المنطقة، وبماذا بدأت وما الذي انتهت إليه ثورات ما سمّي “الربيع العربي”؟ وكالعادة، يدور جانب من النقاش على قاعدة أسود وأبيض: ناس لا ترى سوى الكوارث، وناس ترى مع الكوارث عوامل إيجابية وبدايات مفتوحة في ذلك الربيع.
وجانب آخر يُدار بالرؤية الشاملة لكل العناصر في وضع عربي معقد، مفتوح على وضع دولي يستعيد سياسة القرن التاسع عشر وصراعاته في القرن الحادي والعشرين. فلا الثورات ملأت الفراغ الذي كان قائماً على المسرح العربي، وإن ملأت الشوارع، بمقدار ما زادت من تدخل القوى الإقليمية والدولية وقوة أدوارها على المسرح. ولا هي، حيث نجحت في تونس والسودان ومصر، تمكّنت من تحقيق المطالب الملحة التي انطلقت منها. إذ سقط النظام القديم، لكن النظام الجديد لم يضمن الخبز والعدالة الاجتماعية والقضاء على البطالة وضرب الفساد وبدء النهوض الاقتصادي. والثورات ليست فقط إحلال سلطة محل سلطة، بل أيضاً دينامو لتغيير المجتمع، وإلا صارت انقلاباً بالشراكة بين العسكر والمدنيين.
وحيث فشلت الثورات في ليبيا وسوريا واليمن، فإنها تحولت إلى حروب أهلية برعاية إقليمية ودولية مباشرة وبالوساطة عسكرياً ومالياً. وفي الحروب الأهلية فرصة للتيارات التكفيرية الإرهابية التي تعتبر أن “الديمقراطية كفر”، وتسعى لإقامة دول فاشية بشعارات دينية.
سوريا في حرب صارت في عامها العاشر، مقسَّمة جغرافياً بين النظام، وإيران، وتركيا، والكرد بحماية أميركا، ومحكومة بالنفوذ الروسي عسكرياً وسياسياً، وبحسابات موسكو مع أميركا، وإيران، وتركيا، والكرد، والنظام. “داعش” لا يزال في البادية، وجبهة النصرة التابعة لتنظيم “القاعدة” لا تزال في إدلب ومناطق أخرى.
ليبيا في حرب أهلية ودخول إقليمي ودولي على الخط، حيث استغلت تركيا الوضع، وتدخلت عسكرياً وشاركت في لعبة النفط والغاز شرق المتوسط. واليمن في حرب أهلية لا تنتهي وانقسام جغرافي بين مناطق يسيطر عليها الحوثيون ومناطق الشرعية المعترف بها دولياً.
وخارج إطار الحروب الأهلية، فإن الأوضاع صعبة. مصر مشغولة بهمومها الداخلية ومكافحة إرهاب الإخوان المسلمين. والعراق متروك لإيران وأميركا، ويحاول رئيس وزرائه مصطفى الكاظمي استعادة عمقه العربي، محذراً من سقوط النظام بعوامل “الفساد والمال والسلطة” إن لم تحدث إصلاحات.
لبنان متروك لإيران، وتحاول فرنسا مساعدته فتصطدم بتركيبة ميليشياوية متجذرة في الفساد. الخليج مشغول بالخطر الإيراني ومتجه نحو اتفاقات سلام مع إسرائيل. والجزائر فقدت دورها بعد الاستقلال، ومنع الجيش ثورتها الشعبية السلمية من تغيير النظام.
ولا شيء في معزل عن سياسات القوى الطامحة في الإقليم وفي العالم. ففي ثمانينيات القرن الماضي جرى عرض لبناني لأميركا قوامه إقامة قاعدتين عسكريتين، فقال وزير الدفاع الأميركي يومها كاسبار واينبرغر لمحدثه اللبناني: “لسنا في حاجة إلى قواعد عسكرية”. أما اليوم وبعد ثورات الربيع وحتى قبلها، فإن أميركا تقيم قواعد في دول عربية عدة إلى جانب تركيا وجيبوتي وجزيرة كريت.
فرنسا لها قواعد في دول عربية وأفريقية. لبريطانيا قواعد قديمة في قبرص وجديدة في بلدان عربية. لروسيا قواعد في سوريا والسودان وطموح لقاعدة في مصر وأخرى في ليبيا. للصين قاعدة في جيبوتي. تركيا لها قواعد في سوريا والعراق وليبيا وقطر وكانت تفاوض السودان على قاعدة في جزيرة. إيران لها قواعد في سوريا، وحشد شعبي في العراق، و”حزب الله” في لبنان والحوثيون في اليمن.
لكن، المعادلة أمام القوى الخارجية المتدخلة في البلدان العربية، بحسب المؤرخ الأميركي مالكولم كير، هي “لا قدرة على الربح ولا على المغادرة”. والأنظمة مارست سياسات “تمويت” المجتمعات، في حين تولت الثورات “تمزيق” المجتمعات.
شيء برعاية القوى الخارجية، وشيء بأخطاء القوى المحلية، وأشياء بالعصبيات الطائفية والمذهبية وأحلام استعادة “الخلافة” على أيدي تنظيمات إرهابية.