سينابس
يقول بعض السوريين إن دمشق نجحت في رفع جدران الخوف من جديد، وهو الشيء الوحيد الذي شيدته وسط الدمار المستشري. فهذا الجدار كان سمة النظام قبل 2011، وانكسر مع اندلاع الانتفاضة، ولكنه عاد الى البروز مع انبعاث الدولة الامنية في اصقاع البلاد حيث انحسرت قبل سنوات. وعادت «المخابرات» الى سابق عهدها، فهي تراقب كل من ينبس ببنت شفة. ولم يعد السوريون يقولون ما يجول في بالهم على سجيتهم خارج بيوتهم. ولكن ليست المراقبة، والتخويف، والقمع فحسب ما بعث ستار الخوف، بل الانهاك وتبدد الآمال والأوهام، وانشغال الناس بالبقاء وتأمين لقمة العيش. فمن سبق له أن ثار في الأمس القريب، شاغله اليوم تأمين لقمة العيش أو إخراج الأقارب من السجن. «الناس ضائعون، ومحبطون، لا يبالون بالحوادث اليومية. والانهاك طاول السوريين كلهم. فالموالون يقولون من غير مواربة: «لا نعرف إلى أين نتجه ونسير. «لا مستقبل يلوح في الأفق»، يقول محلل شمال أفريقي أقام طوال عقود في دمشق نقلاً عن أصدقاء في العاصمة السورية.
وكسرت شوكة المجتمع السوري وتذرر. فالجماعات نأت بنفسها عن الدوائر المشتركة على وقع الحرب أو المنفى. ولم تعد الجماعة من الجماعات تعرف أحوال الجماعات الأخرى. فالحرب فاقمت الشقاق الاجتماعي والاقتصادي وصدوعه السابقة للنزاع. ولعل مدينة حمص هي خير مثل على ذلك. فهي مدينة فيها أقليتان مسيحية وعلوية وازنتان، وكانت أول المراكز المدينية المنتفضة، وأول من انزلق إلى أتون سفك الدماء المذهبي. وبعد نحو أربع سنوات على استرجاع القوات الموالية حمص، لم تندمل الانقسامات المذهبية ولا تزال ناتئة وتشمل أوجه الحياة كلها من التفاعل الاجتماعي إلى العمل المدني. والانقسام في حمص، شأن سورية كلها، هو بين جماعات مع النظام وأخرى ضده- وهي ثنائية تقسم عائلات وأحياء وبلدات ومدن- ويتوقع أن يدوم عقوداً. ففي وقت أيدت الاغلبية السنّية في حمص الثورة، سارع علويو المدينة الى معارضتها واعتبارها خطراً وجودياً عليهم. واليوم، الحدود بين الطائفتين تنتصب بين الفائزين في النزاع والمهزومين. ويتذمر علوي من حمص من مساعي الحكومة لإعمار المناطق السنية: «لا أعرف لماذا تجيز الحكومة مثل هذه المشاريع هناك بينما يجب أن تنفذ (هذه المشاريع) في مناطقنا عربون شكر لنا على تضحيات أبنائنا والتضحية بهم».
وفي وقت يشعر شطر كبير من السنّة بأن أصواتهم قمعت وأنهم ضحايا عنف مسترسل، لسان حال العلويين هو الشعور بأنهم ضحايا ويريدون الانتقام من السنّة الذين خانوا البلاد. ويقول رجال من السنّة إن أحياء العلويين ازدهرت في الحرب واستفادت منها، وصارت مثل دولة في قلب الدولة يشرف عليها الشبيحة. فقوات الامن لا تجرؤ على سبيل المثل، على دخول منطقة المهاجرين. وإلى الشقاق المذهبي، تعاظم الشقاق بين أثرياء سورية وفقرائها- وهو شقاق ساهم في الانتفاضة وبلغ اليوم مبلغاً غير مسبوق. فثمة شلة صغيرة جنت مكاسب ضخمة من اقتصاد الحرب، في وقت تنزلق الأكثرية إلى الفقر. ويلخص تاجر سنّي الوضع قائلاً: «الحرب دمرت الحركة التجارية. كثر من التجار المحترمين هاجروا أو قتلوا. وشطر آخر منهم لم يبارح مكانه ولكنه يخشى العودة إلى العمل. فمن ينجح اليوم هم المقربون من أجهزة الأمن الذين يشون بالشباب المعارض أو يتقاضون مبالغ كبيرة من عائلات تريد الإفراج عن أولادها». ومثل رجال الأعمال هؤلاء هم من تزدهر أعمالهم. وثمة شقاق أكبر في سورية ولكنه أقل بروزاً على رغم أن أضراره جسيمة. فالشقاق المذهبي أو الطبقي لا يختزل حال السوريين. وبعض خطوط الشقاق أقل دراماتيكية وأقل نتوءاً: شقاق بين الجيران والزملاء والأصدقاء والأقارب الذين انقسموا على جبهات متباينة في النزاع السوري، على رغم أنهم أبناء طائفة واحدة. فالنزاع يغذي سيلاً لا ينضب من النقمة المضمرة الى اليوم، ولكنها غير منسية. وعلى سبيل المثل، يروي أستاذ من الرقة أن «داعش» خلف شقاقاً في نسيج المدينة حين سعى إلى إحكام قبضته عليها: «وكثر من مقاتلي داعش نزعوا ملابسهم (الداعشية) والتحقوا بقوات سورية الديموقراطية سعياً إلى حماية أنفسهم وعائلاتهم. ولكن المقاتلين هؤلاء لم يتغيروا. والانتقام قادم ومرجأ إلى بعد حين. فالناس مشغولون بشد أواصر حيواتهم. ولكن كل من عانى في عهد داعش، أو من قُتل شقيقه على يد التنظيم، سينتقم لا محالة».
وإرث العنف يفاقمه التنافس الحاد على موارد قليلة وبائسة. ففي دمشق، على سبيل المثل، سلم (اجتماعي) جديد بين السكان الاصليين وفسيفساء الجماعات النازحة التي تبحث عن عمل أو مساعدة. وتشرح سيدة من ديرالزور أنها تشعر بالذنب لأنها أخذت فرصة عمل من «النازحين»- وهم سوريون نزحوا إثر حرب 1973 واحتلال إسرائيل الجولان، وهم احتلوا طوال عقود مرتبة دنيا في السلم الاجتماعي السوري. وتروي قائلة: «أعمل في منزل سيدة درجت على الاستعانة بسيدة من مخيم الوافدين لمساعدتها في أعمال التنظيف، ولكن العاملة هذه صارت مسنة وتحطم الأشياء. لذا، وظفتني أنا، وتقول لي إنني أصغر سناً ومناسبة أكثر للعمل. ولم تعد هذه السيدة ترى أن العاملات من الوافدين نازحات، وترى أن النازحين الجدد هم أكثر أهلاً بالمساعدة». ومثل هذه القصص شائعة بين من يسعى إلى لقمة العيش في العاصمة وجوارها. وتروي سيدة من ريف حلب تجربة تنقلها بين مراتب الحرمان والعوز في دمشق:» قدمنا الى دمشق قبل حوالى عام، وسجلنا أسماءنا في لوائح الهلال العربي الأحمر للحصول على إغاثة. فمنحونا ثلاث بطانيات وفراشاً، وثلاث سلات غذائية. ولكن المنظمة هذه قطعت عنا المساعدات اليوم، وتقول أنها لا تستطيع مساعدتنا بعد اليوم- فالدور في المساعدة يؤول إلى القادمين من الغوطة». أما سيدة من درعا فتلقي باللائمة على جماعة أخرى: «القادمون من دير الزور يستحوذون على السلال الغذائية كلها. فهم بارعون في إقناع المنظمات الإغاثية بمساعدتهم». ويشعر أبناء ضواحي دمشق من غير الميسوريين أنهم مهملون، ويقول أحدهم :»الجمعيات الخيرية تساعد من نزح من مكان آخر. وحين تأتي إحدى الجمعيات، أزعم أنني نازح».
وعلى رغم أن مثل هذا الشقاق أقل حدة من نظيره الذي يفصل بين مؤيدي النظام ومعارضيه في الحرب، غير أن هذه الانقسامات هي مرآة تهشيم العنف الجماعات السورية وتشظيها. ولائحة الانقسامات تطول: الانقسام بين المحافظين السنّة والسنّة الأكثر علمانية. فعلى الحواجز، لا توقف الحاسرات، في حين أن أجهزة الامن ترى أن المحجبات من المعارضة. والى هذا الانقسام، ثمة انقسام بين سوريي الداخل وسوريي الخارج، وتعمق الانقسام بين أهل الحواضر وأهل الريف، وبين أبناء العاصمة وجوارها. فأهل العاصمة يلقون بلائمة الثورة والدمار الذي ترتب عليها، على أهل الريف. وهذا التشظي هو وراء بروز مساعي حوار يمولها الغرب- بين جماعة وأخرى وبين المجتمعات المضيفة والنازحين، وبين مؤسسات الحكومة ومعارضين. ولكن كثيرين يحذرون من الانزلاق إلى الحوار من أجل الحوار وطمس المشكلات. ويقول تاجر من دمشق أن تجربته مع الحوار بين عناصر القطاع الخاص لم تفض الى شيء. «ثمة قطاع كامل مداره على الوساطة بين من لا يجمع بينهم جامع، في وقت المشكلات التي أدت إلى الثورة لم تذلل بل تفاقمت». وخطر طمس شوائب سورية كبير، في وقت تفرض دمشق أكثر فأكثر روايتها عن الحوادث، وترجح كفة أكثر الموالين عدائية وتكم أفواه المعارضين أو المحايدين.
* فريق مراسلين، عن «سينابس نتوورك»، 6/8/2018، إعداد منال نحاس