في الثامن عشر من آذار تطوي الثورة السورية العظيمة عامها الثامن وتدخل تاسعه، لم تغير من أهدافها صنوف القتل والتدمير والتهجير، الذي مارسه النظام وحلفاؤه الروس والإيرانيون وميليشياتهم الطائفية، كذلك لم تتراجع حدة الصراع الدولي والإقليمي على النفوذ الذي تتعدد أشكاله ووسائله، دون أن تكترث هذه الأطراف بكم المآسي التي لحقت وتلحق بالشعب السوري في سابقة قلما شهدتها منطقة أخرى في العالم، ومن جملة ذلك أن الأطراف السورية التي لعبت في مرحلة دور وكلاء حرب للأطراف المتصارعة، لم يعد لها من دور في مسار الحراك السياسي الدولي الباحث في ظل الصراع عن حل سياسي لم تنضج شروطه الدولية بعد.
عند هذه العتبة من مسيرة الثورة تبين لوحة الصراع أن إنضاج الحل السياسي يتطلب شطب العديد من اللاعبين المحليين والإقليميين ومن ثم الدوليين من معادلاته، نظرًا لتعدد هذه الأطراف والتناقضات الحادة في استراتيجياتها ومصالحها، لقد خرجت الأطراف المحلية من معادلات الصراع أو كادت، فالنظام فقد قراره السياسي والعسكري لصالح القوتين الرئيسيتين اللتين منعتا سقوطه، ألا وهما روسيا وإيران، وكذلك فصائل المعارضة المسلحة التي دخلت مرحلة التلاشي والتراجع منذ سقوط حلب نهاية العام 2016، وتلتها الجبهة الجنوبية ثم الغوطة الشرقية وريف حمص الشمالي، وانكفأت فلولها إلى محافظة إدلب، وباتت رهينة القرار التركي حسبما تقتضيه تطورات الصراع، ذات المصير قد تواجهه قوات قسد التي تحالفت مع الولايات المتحدة في محاربة داعش، بعد أن قررت الولايات المتحدة سحب قواتها من سورية، كما أن الفصائل الإرهابية المتطرفة التي أضرت بالثورة أيما ضرر والممثلة بداعش والنصرة ومن على نهجيهما، فقد طويت صفحة داعش كوجود تنظيمي وستتبعه النصرة قريبًا لكن مع خلاف بالطريقة، وبالمقابل فإن المعارضة السياسية لم يكن أداؤها بمستوى الثورة ومتطلباتها، وإذا كان حجم التدخل الدولي ولعبة الأمم الدائرة في سورية وطبيعة الثورة من حيث هي ثورة عفوية غير نمطية ، يشفع جزئيًا لهذه المعارضة على المستوى المتدني في أدائها، إلا أنه لابد من الاعتراف أن هناك خلل بنيوي في تركيبة المعارضة السورية سواءً التقليدية منها، أو تلك التي تبلورت في سياق الثورة، ربما يجد تفسيره دون أن يبرره في طبيعة الانقسامات المجتمعية والانحيازات الايديولوجية والحزبية التي تحكمها على حساب تطلعات الشعب السوري.
إن إيران وتركيا قوتان اقليميتان متدخلتان في سورية، سيكون من الصعب إخراجهما أو حتى التوصل معهما إلى تفاهمات معينة، نظرًا لخصوصية التوجهات التي تحكم كلًا منهما، ولعل إيران هي الطرف الذي توجه إليها الضغوط لإخراجها، وثمة توافق أميركي إسرائيلي معلن وعدم ممانعة روسية على زيادة الضغوط العسكرية التي توجهها إسرائيل لمواقع التمركز الإيراني في سورية، كما وتشديد العقوبات الأميركية بالترافق مع تنشيط حملة دولية واسعة لعزل إيران سياسيًا، كان مؤتمر وارسو الذي عقد منتصف/شباط فبراير الفائت أبرز تجلياته. إن إيران سوف تجبر ولو بعد حين على الانسحاب من سورية، إما نتيجة الانهيار الاقتصادي المحتمل تحت ضغط العقوبات الاقتصادية النوعية والشديدة الواقعة عليها، أو بحكم تطورات داخلية ليست مستبعدة تجبرها على الانكفاء داخل حدودها، وتتخلى عن مشروعها التوسعي في المنطقة، وبغض النظر عما يصرح أو يهدد به المسؤولون الإيرانيون من ضمن سياسة حافة الهاوية التي يجيدونها، فإن النظام الإيراني يدرك أنه لا يستطيع في نهاية المطاف مواجهة كل هذه الضغوط، إنما هو يحاول من خلف الكواليس البحث عن تفاهمات مع الولايات المتحدة تقلص خسائره إلى أكبر قدر ممكن، بما في ذلك قبوله ببعض النفوذ الاقتصادي في سورية الذي لا تمانعه الولايات المتحدة.
ذات الأمر سوف ينسحب على تركيا المتطلعة إلى نفوذ اقتصادي في المناطق المحاذية لها، إذا ضمنت عدم قيام أية صيغة كردية على حدودها، كما وضمان تواجدها على طاولة الحل عندما يأتي أوانه، ولعل أغلب ما يطلقه المسؤولون الأتراك من تحذيرات وخطط، لا يعدو أن يكون مادة للاستهلاك الداخلي، وهم يدركون أن كل ما قاموا به أو ما يمكن أن يقوموا به من قبيل منطقة آمنة أو أمنية أو عازلة لا يستطيعونه دون تكليف أميركي وموافقة روسية، وعلى بعض أطراف المعارضة السورية التي تراهن على دور لأي من الدول المتدخلة، و تتطلع للاستفادة منه في مشاريعها الضيقة، أن تدرك أن رهانات من هذا النوع هي محكومة بالفشل، فالدول توجهها مصالحها القومية قبل كل شيء.
منذ انهيارات المعارضة العسكرية العام الماضي ثمة ظاهرتان تطفوان على السطح، أولاهما يديرها النظام وحلفاؤه وغايتها بث حالة من اليأس في نفوس الشعب السوري، الذي ثار طلبًا لحريته وكرامته مفادها أن الثورة السورية قد فشلت، وأن النظام استعاد زمام السيطرة كما كان سابقًا، وهذه الظاهرة ليس لها ما يسندها على أرض الواقع. فعلى الرغم من تراجع وضع الثورة بفعل الجهد العسكري الكثيف لكل من روسيا وإيران، وخذلان الدول التي ادعت صداقة الشعب السوري، إلا أنه ليس هناك من سلم بالهزيمة، أو أقر للنظام بنصره الموهوم. فالصراع مازال مفتوحًا، والنظام بات رهينة الدول التي تدخلت لصالحه، واستمراره مرهون بتواجدها، يدلل على ذلك تعامل هذه الدول معه على قاعدة التابع والمتبوع ، كما وعجزه عن تلبية احتياجات الناس في مناطق سيطرته، أما الظاهرة الثانية فهي محاولة الروس إعادة تأهيل النظام عربيًا وإقليميًا للتهرب من استحقاقات الحل السياسي وفقًا لبيان جنيف 1 و قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254 ، إلا أن محاولات الروس هذه ومنها جولة لافروف الأخيرة لدول الخليج، لم تحقق أي نتائج، ومن تسرع من تلك الدول بإعادة فتح سفاراته في دمشق، عاد وأغلقها تحت ضغط إرادة دولية معاكسة.
لقد فشلت روسيا في تسويق رؤيتها للحل السياسي، كما فشلت قبلها إيران، وأن الحل السياسي الذي يعمل عليه المجتمع الدولي ومازال مؤجلًا، سيكون في النهاية نتيجة لتوافقات أميركية روسية أو صفقة بينهما، وهذا الحل إذا لم يضمن تغييرا عميقًا في بنية النظام والانتقال نحو نظام ديمقراطي، وينصف الضحايا في سياق عدالة انتقالية موثوقة ويؤمن عودة آمنة لملايين المهجرين إلى ديارهم وإعمارها، فلن يكون سوى مقدمة لموجة من العنف ستكون أشد وطأة، وعلى الشعب السوري أن يبقى على استعداد لإعطاء ثورته دفعة جديدة ، ما لم تتحقق مطالبة العادلة التي خرج من أجلها، وأن الذين أرادوا أن يجعلوا من مأساة الشعب السوري والويلات التي رافقت ثورته درسًا لشعوب المنطقة في حال فكرت بالخروج على أنظمتها الفاسدة والمستبدة، جاء حراك الشعبين السوداني والجزائري وما سيتبعمها من حراك محتمل في دول أخرى، لبثبت أن ثورة هذا الشعب باتت ملهمًا لكل الشعوب المتطلعة للحرية والعدالة.
تحية لأرواح الشهداء
عاشت سورية حرة وديمقراطية
دمشق في 17 / 3 /2019
الأمانة العامة لإعلان دمشق
للتغيير الوطني الديمقراطي