لم يظهر سياسيون مهمون في الثورة السورية، والثورات العربية عموماً. هل لهذا أخفقت الثورات، أو أن هذا متولد من إخفاقها؟ أميل إلى الإجابة بأن ظهور السياسيين يرتبط بالدخول العام في السياسة، وهو ما تطلعت إليه ثوراتنا وأخفقت فيه. هذه المقالة تلتمس بعض جذور إخفاق الثورات وندرة السياسيين في «النظام الشرق أوسطي».
دانت السيادة في الشرق الأوسط منذ 1967 للأميركيين وشريكهم الإسرائيلي. الدول العربية المنزوعة السيادة احتفظت بسياسة محكوميها، لكن على نحو لا يمس بالنظام. صار التغيير السياسي في إقليمنا المُدوّل مسألة دولية، وتوقفت أية تغييرات سياسية داخلية المنشأ منذ ذلك الوقت تقريباً. ما أسميه النظام الشرق أوسطي هو قائم على تدويل التغيير، وما يعنيه ذلك من أن هناك سيادة عليا تتحكم بالعمليات السياسية الأساسية في الإقليم، على نحوٍ يصون «الاستقرار» ويكفل بالتالي بقاء الأطقم الحاكمة.
النظام الشرق أوسطي تكوّن عبر حرب كبيرة واحدة على الأقل كل عقد من السنين: 1948، 1956، 1967، 1973، 1982، 1991، 2003، فضلاً عن حروب إسرائيل المتكررة على الفلسطينيين. لكن النظام تشكل أيضاً عبر الحرب اللبنانية (1975-1990، حافظ الأسد منح رخصة سحق حركة تمرد الجنرال ميشال عون كثمن لانضمامه إلى التحالف الدولي ضد نظام صدام حسين وقتها)، والحرب الأسدية الأولى في سورية (1979-1982)، وحروب صدام حسين (الحرب العراقية الإيرانية 1980 -1988، وحرب الكويت 1990-1991) وحصار العراق حتى احتلاله عام 2003، وقبل ذلك وبعده إلحاق الخليج بنظام الأمن القومي الأميركي.
وبينما لم يخل النظام يوماً من توترات وصراعات، والإيقاع العشري للحروب مؤشر قوي إلى ذلك، فإنه أخذ يقوم على ثابتين مترابطين: أمن مطلق للركيزة الإسرائيلية، واحتكارها الحرب في الإقليم، وأمن مطلق لأطقم الحكم المقبولة واحتكار الحرب في الداخل. كان هناك دوماً معترضون من تحت على النظام. هؤلاء اسمهم إرهابيون، وهم مستحقون للسحق دوماً.
الفلسطينيون أبيحوا للإبادة السياسية منذ قيام إسرائيل، والإبادة الفيزيائية حيثما قاوموا وهاجموا. السوريون تلوهم. حين كانت قوات منظمة التحرير تحاصر وتطرد من لبنان المحتل من جانب إسرائيل في مطلع صيف 1982، كانت انقضت بالكاد أربعة أشهر على مذبحة حماة.
ومع تحول التغيير السياسي إلى شأن دولي، تختص به على نحو خاص السيادة الجديدة، الإسرائيلية الأميركية، أخذ نمط شرعية النظم الحاكمة يتغير تغيراً كبيراً في إقليمنا. قبل ذلك، كانت أطقم الحكم تستمد شرعيتها من التصاقها بما يفترض أنها غايات وطنية جامعة لمجتمعات مستقلة حديثاً. بعد ذلك، صارت الشرعية شيئاً متأصلاً في الحاكمين، وهم من صاروا يعطون شرعية لما يقع تحتهم من شعوب ودول. حافظ الأسد أهم من سورية بما لا يقاس، وهو ما يعطيها الشرعية، دولة وبلداً. وصدام مثل ذلك. والقذافي. كانت مصر أرسخ كياناً من أن يستتبعها حاكم، لكن التغير السياسي لم يعد شأناً مصرياً منذ السبعينات، وكان مبارك يعمل على توريث الحكم في نسله، ما كان من شأنه أن يكون نقلة نحو امتلاك «أم الدنيا» جرياً على سنة السلالة الأسدية في سورية.
وبنظرة عامة، فإنه منذ هزيمة الحركة القومية العربية في حزيران (يونيو) 1967 لم تنتج بلداننا سياسيين، أشخاصاً وتجمعات من أشخاص أحرار مستقلين، أو منخرطين في صراع من أجل الحرية والاستقلال. أنتجنا طغاة يرفعون أنفسهم فوق المرتبة البشرية، ومناضلين في أوضاع يائسة. وبفعل الطغيان من جهة والحرب كل عشرية من جهة ثانية، وما ألحق بمجتمعات سورية والعراق ولبنان وفلسطين، ومصر بقدر أقل، من دمار، استحال أن تتشكل خيارات اجتماعية وسياسية مستقرة، تعمل من أجلها مجموعات من الأفراد وتراكم الأفكار والخبرة طوال سنوات. لم يظهر سياسيون لأن بناء الخيارات وحمايتها كانا أمرين مستحيلين.
المسألة ببساطة أن مجتمعاتنا مجردة من السياسة على يد الوكلاء المحليين، بقدر ما أن دولنا مجردة من السيادة وممارسة السياسة في المجال الدولي. هذا هو «القانون العام». فإذا كانت كل محاولات بناء تجمعات أو منظمات سياسية جديدة تخفق على نحو نسقي متكرر، فبفعل هذا القانون العام الذي يترك هوامش محدودة للفعل السياسي.
المحاولة الجمعية الأكبر لامتلاك السياسة عبر هدم جدار الوكالة المحلية تمثلت في الثورات العربية. أكبرها، الثورة السورية، تعرضت لتحطيم شامل من جانب الوكالة المحلية، لكن بمشاركة نشطة من جانب القوى القائدة في النظام الدولي التي تحظى إسرائيل بكلمة مسموعة عندها. وأسهمت في ذلك التشكيلات الإسلامية التي تولدت عن الحجر السياسي المديد، ويبدو أن السياسة تستعصي عليها استعصاء محتوماً، فتذوب في كل وقت في الدين أو في الحرب، أو في مزيجهما: السلفية الجهادية.
خلال العامين الأولين من الثورة السورية، ظهرت تجارب سياسية وبرز عدد كبير من مناضلين وناشطين وأشكال عمل عام، كان يمكن أن تتمخض عن سياسة وسياسيين جدد. لكن إخفاق الثورة، وهي أكبر جهد جمعي عرفته سورية لامتلاك السياسة خلال نصف قرن، أطلق موجة تحطيم معاكسة، جانب منها من داخل هذه الأجسام والتجارب الجديدة بالذات، وإن يكن التحطيم الأساسي جاء من طرف «النظام»، المحلي منه والدولي والشرق أوسطي.
لا يترك النظام الشرق أوسطي فرصاً لامتلاك السياسة غير الثورة، ولامتلاك السيادة، ومنها بخاصة الحرب، غير التمرد العدمي المطلق على شاكلة السلفية الجهادية. ولا وجه عادلاً في رأيي لإدانة السلفية الجهادية من أي موقع لا يدين النظام الشرق أوسطي والنظم المحلية القائمة. السلفية الجهادية حل فاشل للمشكلات السيادية والسياسية في الشرق الأوسط، من وجه أنها تلحق السياسة بالسيادة على طريقة الدولة الأسدية ذاتها، فتحول دون ظهور السياسة والمصلحة العامة، من دون أن تكون لها سيادة حقيقية تتجاوز شن الحرب المستمرة على محكوميها، ومن وجه أنها تحولت إلى عنصر من عناصر النظام المضاد للسياسة، وذريعة للبطش بأي قوى شعبية محتملة. لكن ليس فيها من وجهة نظر تاريخية ما هو خاص أو استثنائي.
إذ ماذا يوفر النظام من خيارات؟ النظام نفسه، أي التكرار اللامتناهي، أو «الأبد»، كما يسمى في سورية، ثم تعبيرات سياسية «معارضة» صغيرة تعجز عن التطور، وفرصتها الوحيدة في التطور هي تحطم النظام وانطواء الأبد. ولا يبقى من خيار ثالث غير الخيار العدمي الذي يناهض الكل ومن الأساس، الذي هو السلفية الجهادية. نظامنا الشرق أوسطي الذي لا يسمح بالسياسة لا يسمح بظهور غير هذه الأدوار الثلاثة.
في أي اتجاه يتطور النظام في زمن سحق الثورة السورية على يد الثيوقراطية الإيرانية وأتباعها من الميليشيات الطائفية العراقية واللبنانية والأفغانية وغيرها، وعلى يد الإمبراطورية الروسية؟ ليس ثمة ما يشير إلى أن دخول إيران وروسيا يتعارض مع بنية النظام، القائمة على منع الدول من امتلاك الحرب (ضد غير محكوميها)، ومنع المحكومين من امتلاك السياسة. يبدو الاحتلالان الروسي والإيراني على صلة بانكفاء أميركي في الشرق الأوسط، إلا أنه ليس هناك ما يمس بالمركزية الإسرائيلية، فوق أن المحتليْن يعملان على إنقاذ ملتزم محلي، راعى طول الوقت ضوابط السيادة الإقليمية وكان متشدداً في استئصال السياسة من الداخل السوري.
بل يبدو اليوم أن النظام الشرق أوسطي في طور ما بعد الثورات العربية يتطور في اتجاه أكثر عدوانية وسحقاً للسياسة والمجتمعات. إيران وروسيا معاديتان للمجتمع في سورية، وليس فقط لسياسات استقلالية في هذا المجتمع مثل الأميركيين. وكلتا الدولتين تتوافق مصالحهما مع التطهير العرقي وتغيير تركيبة المجتمع السوري السكانية، أي أنهما لا تكتفيان بنزع السياسة من سوريين، بل بتجمير الاجتماع السوري ذاته. وهو ما يبدو أن الطور الجديد من السياسة الأميركية، الطور الترامبي، متوافق معه أيضاً، تحت راية محاربة الإرهاب الإسلامي.
ماذا يفعل رهائن النظام الرافضون دور المعارض الذي يسحق مرة تلو المرة، أو يتكيف مع النظام من موقع متنحٍ، والرافضون أيضاً للمخارج العدمية والسلفية الجهادية؟ هذا هو سؤال الأسئلة اليوم. وهو سؤال أصعب في السياق السوري الذي لا يسمح بالعمل التحتي في الداخل بفعل شرط الطغيان المستعاد نفسه، المحمي بالحراب الأجنبية، أو بفعل الاقتلاع والاستحالة الفيزيائية.
«يجب الدفاع عن المجتمع» ضد التطهير العرقي وتغيير التركيب السكاني، وضد الإبادة. لكن أول الدفاع عن المجتمع في كل حال هو امتلاك السياسة وإنتاجها، ما يعني العمل على تغيير النظام ككل، «الشرق الأوسط» كمساحة تبعية يترابط فيها ما هو محلي مع ما هو إقليمي ودولي. يبدو هذا ممتنعاً اليوم بعد إخفاق الثورات العربية. لكن تطلع الثورات العربية يبقى راهناً اليوم وفي كل وقت. «الشعب يريد إسقاط النظام» كي يمتلك السياسة والدولة.
كي يصير شعباً.
* كاتب سوري