خمسة عشر عاماً من انتظار يائس لابنها البكر الذي اختطفته أجهزة نظام الأسد الأب الأمنية من بين ذراعيها، سنوات مديدة قاسية تجرّعت خلالها الأم المسكينة علقم اليأس والفقد والحسرة على العمر الذي ضاع.
كانت تسمع من مثيلاتها عن شباب عادوا فتصدّق الخبر وتتشبّث به، وتسمع عن شباب قتلوا فتكذّب الخبر وتصرفه عن ذهنها حتى لو رأت كلّ علامات صدقه.
عندما طرق الغائب باب الدار أواسط التسعينيات وفتحته لترى حلم عمرها قد عاد، بدرت منها تصرفات مجنونة فكانت تضمّه وتشمّه وتقبّله تارة، ثم تدفعه وتأخذ مسافة عنه لتتأمله علّ المسافة تؤكد أن فلذة كبدها في حضرتها في الحقيقة وليس في الحلم.
انصرمت أيام على الشك بعودته حتى خشي عليها ذووها من الجنون.
كانت حالة الحرمان من قطعة القلب نموذجاً كافياً لمناصبة نظام الأسد العداء، ولكنها لم تكن فريدة من نوعها ولا بالغة الذروة في القسوة والوحشية.
فقبل ذلك عندما دبّت دبابات جيش الأسد” العقائدي” مدينة حماة لم تكتف بمحاربة حملة السلاح، وإنما سلّطت على أبناء المدينة مجموعات من الجهلة مطلقي الولاء ليمارسوا انتهاكات لأعراض الناس في عملية توخّت تحقيق ثلاثة أهداف: ترغيب هؤلاء الأتباع بإطلاق العنان لهم ليفعلوا ما تأمرهم غرائزهم الدنيئة بفعله، والتعبير عن حقد دفين وتاريخي على السوريين عموماً وعلى الحمويين بشكل خاص، وإعطاء المجتمع السوري درساً قاسياً فحواه أن ثمن التمرد أكثر من غال.
ولم يقتصر التعامل البربري على حرمان أمّ من ابنها، ولا على اعتداء على الأعراض في ظروف حرب مع مسلحين.
فقد شهدت التسعينيات تسخير وجوه دينية لتلميع صورة نظام الأسد، وكانوا ذوي شعبية ومصداقية أكثر بكثير ممن سبقهم في السنوات التي سبقت تلك الفترة، وصاروا يسرفون في وصف رأس النظام بأوصاف الإيمان والتقى والزهد.
ولكنّ سؤالا طرحه أحد القادمين من زنازين تدمر على أحد هؤلاء العلماء أخرسه وجعله لا يحير جواباً.
قال له ماذا تقول لفتيات مسلمات كنا نسمع صراخهن في زنازين تدمر وهنّ يقلن: تعالوا اقتلونا خلصونا من أولاد العار، بعد أن تم الاعتداء عليهن من حراس الظلام الذين جندهم النظام “المؤمن”.
القتل العنيف للروح ومن ثمّ تدجينها في مؤسسات شعبوية تسبّح ليل نهار بحمد القائد، ويتنافس العاملون والعاملات فيها في النفاق طمعاً في الانتقال إلى مواقع أعلى كانا سبيل نظام البعث لإفراغ الحياة في سوريا من ألقها ودفعها بعيداً جداً عن ركب العالم المتحضر.
المرأة ذلك الكائن الجميل الرقيق والذي يعدّ رمز الطبيعة، وتفترض إحدى النظريات أن رغبة الرجل فيها ليست إلا حنيناً للعودة إلى حالة التوحد مع الطبيعة التي عاشها قبل آلاف السنين، انقضّت عليها الهمجية الأسدية وأمعنت فيها تشويهاً وتخريباً وحرماناً.
لا تستطيع البربرية التعايش مع رموز طبيعية جميلة فتحاول تخريب رمزيتها وإنزالها من عليائها إلى درك الهمجية الأسفل، ولكنّ كل محاولات نظام البعث للشغب على رمز الطبيعة ارتدّت عليه إعصاراً هائلاً هزّ أركانه عندما ثارت في وجهه السوريات قائلات له: أنت أصغر وأحقر وأتفه من أن تطاول علياءنا، مهما بلغت قذارتك، فنحن رمز الحياة وأنت رمز الموت، نحن رمز العطاء وأنت رمز الشحً، فاخرج من ساحتنا المقدسة الطاهرة أيها الملعون.
رئيس التحرير