بدأت مأساة المدنيين السوريين مع بداية ثورة الحرية والكرامة باستهداف أجهزة مخابرات النظام
وشبّيحته لهم، منذ اللحظة الأولى لانطلاق التظاهرات الشعبية المنادية بالإصلاح في 18 مارس/ آذار 2011 بالضرب والإهانة والاعتقال التعسفي والقتل بدم بارد، والقصف العشوائي بكل صنوف الأسلحة لدفعهم إلى التراجع عن تأييد الثورة وإغراقهم بمآس متنوعة من الهموم اليومية والمشكلات الطارئة، فضل الملايين النزوح والهجرة على البقاء تحت سيطرة النظام، مرورا باعتماد سياسة التجويع والتركيع بمحاصرة الأحياء والبلدات والقرى الواقعة تحت سيطرة فصائل معارضة مسلحة بقطع كل أسباب الحياة عنها، وصولا إلى الترحيل الممنهج بعد السيطرة على هذه البلدات والأحياء وفرض خيارات قاسية على المقاتلين: المصالحة والالتحاق بقوات النظام أو الرحيل إلى الشمال السوري، حيث تسيطر فصائل المعارضة المسلحة، وتعفيش بيوت هذه البلدات والأحياء وتركها هياكل عظمية نافرة، وإصدار قوانين وقرارات تعقّد فرص إثبات الملكية لمنع عودة اللاجئين إلى وطنهم واسترجاع أملاكهم.
لقد تبنّى النظام سياسة الترحيل والهجرة، لتحويل النازحين واللاجئين إلى عبء على المناطق السورية الواقعة تحت سيطرة المعارضة، لإرباكها تحت ثقل احتياجات النازحين، من جهة، والدول المجاورة لابتزازها ودفعها إلى التفاهم معه على التعاطي مع مشكلة اللاجئين وشروط عودتهم، ما يعني الاعتراف به، وتطبيع العلاقات معه، من جهة ثانية.
اتفقت سياسة النظام مع التوجه الإيراني الساعي إلى تفكيك الاجتماع السوري، وقطع عرى العلاقات الاجتماعية بين المواطنين، تمهيدا لإقامة جدران وفواصل بينهم وتفريغ مناطق من سكانها، ما يسمح بتغيير التركيبة السكانية للمدن والبلدات وتوطين وافدين من المليشيات الشيعية اللبنانية والعراقية والأفغانية والباكستانية، وزرعهم قوى مقاتلة بين خطوط الأعداء والخصوم وخلفها، كنوع من أحصنة طروادة، وترهيب الأغلبية السنية بتجمعاتٍ شيعيةٍ مدرّبة ومسلحة، في إطار استراتيجيتها القائمة على منع توطيد نظام شعبي، له قاعدة عريضة من خلال استهداف القدرات المؤسسية للدولة، لضرب تماسك الدولة، وتحويلها إلى دولة ضعيفة تابعة، بعد تمزيق المجتمع وخلخلة استقراره. وقد قام حزب الله اللبناني والمليشيات الشيعية العراقية والأفغانية والباكستانية بالعمل القذر، قتل وتدمير وطرد، لترهيب السكان، ودفعهم إلى النزوح واللجوء.
لم تكن روسيا بعيدةً عن هذه الممارسة الوحشية، القتل والتدمير والضغط من أجل الدفع نحو النزوح واللجوء، مع فارق في الأهداف، حيث سعت عبر دفع المدنيين السوريين إلى الهجرة واللجوء إلى دول أوروبية، والتحريض، في الوقت نفسه، ضدهم هناك بادّعاءات الإرهاب والأصولية الجهادية والتخلف الاجتماعي لتخويف المجتمعات المستقبلة، وإشاعة حالة قلق وتوتر اجتماعي وسياسي، وتزويد الأحزاب اليمينية والعنصرية بذخيرةٍ قويةٍ لمعركتها السياسية، بحيث تضطر بعده سلطات هذه الدول للبحث عن مخرج، والدخول في تفاهمات مع القوة النافذة على الأرض السورية، والمتحكمة بالقرار السوري: روسيا.
استخدمت روسيا ورقة المدنيين السوريين في سياق استراتيجيتها القائمة على دعم سيطرة الحكومة المركزية والأنظمة الاستبدادية في الدول التي تفتقر إلى سيادة القانون وإلى المؤسسات
الديمقراطية، ويشيع فيها الفساد وانتهاكات حقوق الإنسان، أنظمة شبيهة بالنظام الروسي، لتحقيق أهداف محدّدة، في توقيت محدّد، كانت بدايته تأمين اعتراف أوروبي بشرعية دورها في سورية، وتاليا الإقرار بإمساكها الملف السوري، ومباركة خيارها في حله عبر تكريس النظام، مع إجراء تحسيناتٍ شكليةٍ عليه، بما في ذلك إشراك شخصياتٍ معارضةٍ في الحكومة. ودعت، بعد نجاحها في ضرب فصائل المعارضة المسلحة، وسيطرة النظام على مساحاتٍ واسعةٍ من الأرض، والاتفاق مع تركيا وإيران على خطواتٍ إجرائيةٍ في سياق مسار أستانة ومخرجات مؤتمر سوتشي للحوار السوري، إلى تسهيل عودة اللاجئين، عبر تمويل أوروبي لإعادة الإعمار، لتوفير ظروف مناسبة لعودتهم. كما استخدمت ملف المدنيين للتشهير بخصومها، مثل الحملة الإعلامية التي شنتها على الولايات المتحدة، بتهمة محاصرة النازحين في مخيم الركبان، ومنعهم من مغادرة المخيم؛ ونهب الفصائل العاملة مع القوات الأميركية في محيط قاعدة التنف للمساعدات الإنسانية المرسلة إليهم، وعرقلتها عمل لجنة التحقيق الأممية في استخدام الأسلحة الكيماوية، وتحديد الفاعل لحماية النظام، ورفضها تمديد قرار مجلس الأمن رقم 2449 لإدخال المساعدات الإنسانية من خمسة معابر، وتقليصها إلى ثلاثة، وتخفيض مدة التفويض إلى ستة أشهر بدلا من سنة، مدخلا لتطبيع علاقات الدول المطالبة بحماية المدنيين مع النظام السوري.
حتى الولايات المتحدة التي ابتعدت عن الانخراط المباشر في الصراع على سورية باعتماد سياسة “القيادة من الخلف” لم تتعفف عن توظيف ملف المدنيين لتحقيق مكاسب آنية وطويلة في سورية، إنْ لجهة الضغط على النظام، لدفعه إلى التخلي عن برنامجه الكيماوي، أو لعرقلة التوجه الروسي والإيراني فيها، بتحويل حماية المدنيين إلى شرط من شروط رفع العقوبات عن النظام السوري، لإجباره “على وقف إجرامه بحق المدنيين”، و”عودة آمنة وكريمة للسوريين إلى منازلهم”، كما ورد في قانون قيصر، علما أن القسم الرئيس من العقوبات المفروضة في هذا القانون يلحق ضررا كبيرا بالمدنيين، ويجعل حياتهم أكثر صعوبة وبؤسا. موقف يتناقض مع موقفها المباشر من وضع المدنيين في شرق الفرات، ومباركتها استئثار قوات سورية الديمقراطية (قسد) بعوائد النفط والغاز، وعدم استغلاله في توفير خدمات لأهالي المنطقة، وتحيّزها ضد عرب المنطقة، وغضها النظر عن ممارسات الأخيرة القمعية ضدهم وإجبارهم على الخدمة الإلزامية في صفوفها تحت مسمّى الدفاع الذاتي.
ليس بعيدا عن هذه الاستخدامات لـ”ورقة” المدنيين ما قامت به فصائل معارضة مسلحة لتمويل مقاتليها وأسرهم، كما فعل “جيش الإسلام” و”فيلق الرحمن” في الغوطة الشرقية، عبر احتكار
توزيع الإعانات الإنسانية، والاتجار بالمواد الغذائية المهرّبة إلى البلدات المحاصرة عبر أنفاقٍ تصل الغوطة الشرقية بالقابون، وبيعها بأسعار فلكية، أو ما فعلته “جبهة النصرة لأهل الشام” في محافظة دير الزور وعدم اكتفائها بنهب النفط والغاز وبيعه، بل وزادت على ذلك بفرض إتاوات وضرائب وزكاة على المواطنين، وهو ما فعلته نسختها المحدثة، “هيئة تحرير الشام”، في محافظة إدلب، وما فعله تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، من الاستحواذ على الممتلكات العامة والخاصة وفرض الزكاة والضرائب على المدنيين في المناطق التي سيطر عليها في محافظتي الرقة ودير الزور، وما فعلته “قسد” من تهجير لسكان قرى عربية، وتدميرها لمنع سكانها من العودة إليها، والاستحواذ على نفط شرق الفرات وغازه وفرض التجنيد الإلزامي على المدنيين، من دون اعتبار لموقفهم من مشروعها السياسي والاجتماعي، وما فعله “أحرار الشرقية” و”لواء الحمزة” و”الجيش الوطني”.. إلخ. بسكان منطقة عفرين، طرد ونهب أملاك وفرض إتاوات وضرائب على المحاصيل الزراعية، وكرّروه في رأس العين وتل أبيض.
لقد تحوّل حلم المدنيين السوريين بدولة حق وعدالة وسيادة قانون إلى كابوس طويل، يحتاجون إلى جهد كبير للتخلص من تبعاته، والعودة إلى حياة إنسانية حرّة وكريمة.