بقلم: مناف الحمد
كان إجهاض التَّجربة اللّيبراليَّة السُّوريَّة أحد الأسباب الَّتي مهَّدت لنشوء نظام السُّلطويَّة الشُّعبويَّة البعثي السُّوري. فالأخير استفاد من فشل التَّجربة اللّيبراليَّة الرَّائدة، وما تلاها من تجربة الوحدة مع مصر في معرفة معوّقات تكريس نظامه الشّعبوي، وفهم الدُّروس جيّدًا. لفهم ذلك لا بدَّ من فهم العامل الأكثر أهميَّة في التَّجربة اللّيبراليَّة السُّوريَّة، وهو خيارات الفاعلين السّياسيين الاستراتيجيَّة وعواقب هذه الخيارات.
الطبقة الرَّأسماليَّة السُّوريَّة الَّتي حاولت وضع أساس لعقد اجتماعي ليبرالي تبلور في دستور عام 1950 لم تكن غافلة عن ضرورة رفع مستوى معيشة العمال والفلاَّحين ودمجهم في العمليَّة الاقتصاديَّة كدعامة لا بدَّ منها لتحويلهم إلى شركاء تابعين في العمليَّة الاقتصاديَّة الَّتي تنحو نحو الانتقال من الاقتصاد الزّراعي إلى الصناعي، وكان من ضمن الدّيناميات لتحقيق ذلك إعادة تنظيم حقوق الملكيَّة الزّراعيَّة، وتطوير الرّيف، وتحسين مستوى معيشة العمّال، وتنظيم العلاقة بينهم وبين أرباب العمل. وقد صادف هذا التَّوجه استحسانًا لدى توجّهات إصلاحيّة جسَّدها آنذاك حزب البعث والحزب الشُّيوعيّ السُّوريّ.
هذا اللّقاء في المصالح الَّذي استمر لحوالي عقد منذ عام 1946 وحتَّى عام 1954 ساهم في عمليَّة إصلاح تدريجي وبطيء؛ لأنَّ خلف هذا اللّقاء في المصالح كان ثمّة انقسام بين الرَّأسماليين أنفسهم في التَّوجهات، فبينما فضّل بعضهم سياسة إحلال الواردات شجَّع فريق آخر تشجيع الصَّادرات، وسقف لتصادف المصالح بين الرَّأسماليين والإصلاحيين حول تعبئة الفلاَّحين والعمَّال الَّتي ينوي الأخيرون دفعها إلى حدود قصوى، ويرغب الأوَّلون في إيقافها عند حدود خدمة مصالحهم في التَّحوُّل الاقتصاديّ بدون المساس بالتَّرتيبات السّياسيَّة لمواقعهم السَّابقة على الاستقلال.
المهمُّ أنَّ هذا اللّقاء في المصالح قد أخذ شكله المتبلور في دستور عام 1950 الَّذي تضمن مواد عديدة تنصُّ على الوظيفة الاجتماعيَّة للملكيَّة، والحاجة إلى إدارة استخدام الأرض كمصدر لمصلحة المجتمع، وعدّة عناصر من برنامج حزب البعث لعام 1947 وضمّ عناصر بارزة للإصلاح الرّيفي، وحقوق الفلاَّحين، ومسؤوليَّة الدَّولة عن توزيع أراض للفلاَّحين الَّذين لا يملكون، وحدًا أعظميًّا للملكيَّة الخاصَّة، ومواد أخرى تخصُّ تحسين أوضاع العمَّال، وتخفيف الأعباء الَّتي يرزحون تحتها. كما نصّ على رعاية الدَّولة للتَّنمية الاقتصاديَّة في القطاعين الزّراعي والصّناعي، وعلى النَّموذج الاشتراكيّ لتنظيم العمل وعلى ىظام تعليمي متحكّم به من قبل الدَّولة.
كلُّ ما سبق عكس من منظور مصلحة رجال الاعمال إدراكهم للتَّلازم العضويّ بين التَّنمية الاقتصاديَّة والإصلاح الاجتماعيّ، وضرورة رفع مستوى مهارة الفلاَّحين والعمَّال من أجل تقديم قوَّة العمل الماهرة اللاَّزمة للتَّصنيع. بينما عكس من منظور الإصلاحيين الإجراءات واجبة التَّنفيذ لتحقيق العدالة الاجتماعيَّة والتَّحول الاشتراكيّ. وكان الخصم الموضوعيُّ لهذا التَّحالف المذكور هو ملاك الأرض الَّذين يهدّد ما ينوي هذا التَّحالف تحقيقه مصالحهم الاقتصاديَّة من جهة، ويدفعهم إلى هامش السَّاحة السّياسيَّة من جهة أخرى.
لكن النّية المبيّتة لدى الإصلاحيين في دفع الإصلاح إلى حدوده القصوى وجد فضاء للتَّحقيق في المكاسب الانتخابيَّة الَّتي حقَّقها البعثيون والشُّيوعيون بين عامي 1946 و1954 وهي مكاسب ساعدتهم على دمج القطاعات الشَّعبيَّة من عمال وفلاَّحين في الحياة السّياسيّة كمستقلين، لا كتابعين كما هو سقف رغبة الرَّأسماليين.
وبدا أنَّ الطبقات المعبأة شعبيًّا بعد عام 1954 -وهو التَّاريخ الَّذي مثَّل استئنافا للحياة البرلمانيَّة بعد توقُّف سبّبته فترة الانقلابات العسكريَّة- لم تعد مكتفية بالإصلاحات غير الجذريَّة الَّتي شرع بها الرَّأسماليون ممثّلين بحزب الشَّعب بشكل أساسي، فقد بدأت تطالب بإصلاحات جذريَّة ساعد على المطالبة بها ما قدّمه تدخل الدَّولة والتَّعبئة الشَّعبيَّة من خلق مصادر مؤسّسيَّة استثمرها الإصلاحيون الرَّاديكاليون لتوسيع حدود الإصلاح.
وقد ساعدت ظروف موضوعيَّة على جعل الإصلاحات الجذريَّة شبه ملزمة فلم يعد خافيًا على أحد أولاً أنَّ أولوية الطبقة الرَّأسماليَّة هي مصالحها الَّتي ربَّما تفرض عليها التَّراجع عن تعهداتها إذا شعرت بالخطر، وثانيًا ما تفتَّحت له أعين الطَّبقات العمَّاليَّة والفلاَّحيَّة جرَّاء توسع الدَّولة من إمكانيات في المجتمع والدَّولة السُّوريين لم يكونوا يدركون حجمها، ونجاح البعثيين والشُّيوعيين في تصعيد التَّعبئة الشَّعبيَّة ثالثًا، وما سبّبه تصلّب نخب ملاك الأرض من ردّ فعل تمثل في زيادة تطرّف المجموعات المهمَّشة رابعًا.
هنا أصبحت التَّعبئة الشَّعبيَّة المتزايدة، وما تطالب به من إصلاحات جذريَّة تفوق طاقة التَّحالف القائم بين الرَّأسماليين والإصلاحيين على الضبط، وباتت تمثل خطرًا على مصالح الرَّأسماليين الَّذين لم يكن ممكنًا بالنّسبة إليهم أن يتخلّوا عن موقع المتبوع، والانزياح إلى موقع التَّابع فتراجعوا عن التزامهم بالعقد الاجتماعي الَّذي كانوا واضعي أسسه، والَّذي كان نواة لليبراليَّة سياسيَّة واقتصاديَّة، وغيّروا اصطفافهم القديم وتحالفوا مع خصوم الأمس ملاَّك الأرض ضدّ الإصلاحيين وقاعدتهم الشَّعبيَّة من عمَّال وفلاَّحين.
الاصطفاف الجديد هو تحالف رأس المال والأرض ضدّ الفلاَّحين والعمَّال وقادتهم من الإصلاحيين الرَّاديكاليين. تراجع الرأسمال عن التزامه بالعقد الاجتماعيّ اللّيبراليّ، ونكوصه إلى تحالف مع النُّخبة المالكة للأرض ضدَّ تحالف الإصلاحيين والعمَّال والفلاَّحين شكَّل استقطابًا في الحياة السّياسيَّة السُّوريَّة لم يجد التَّحالف الثَّاني ممثّلاً بمؤيديه من العسكر من وسيلة لكسره من أجل الاستمرار في مشروعه الإصلاحي الرَّاديكالي إلاَّ اللُّجوء إلى عبد النَّاصر وطلب الوحدة مع مصر.
هذه الوحدة الَّتي كرّست أكثر الانحراف عن التَّجربة اللّيبراليَّة الوليدة في سوريا، ووضعت الأسّس لنظام السُّلطويَّة الشَّعبيَّة الَّذي أخذ شكله الأوَّليَّ في انقلاب آذار عام 1963 وشكله الأكثر قتامة مع ما سمي بالحركة التَّصحيحيَّة عام 1970. لم تجهض التَّجربة اللّيبراليَّة الوليدة في سوريا بسبب ظروف بنيويَّة وبيئة مؤسّسيّة فحسب وإنَّما بسبب عامل أكثر أهميَّة هو خيارات استراتيجيَّة لفاعلين سياسيين، وقد كان فشلها الَّذي تتحمَّل كلّ الأطراف الفاعلة مسؤوليَّة عنه على درجات متفاوتة عاملاً ممهّدًا لنظام السُّلطويَّة الشُّعبويَّة البعثي.
الأزمة السّياسيَّة الَّتي ترافق عمليات التَّصنيع في اقتصاد مهيمن عليه من قبل الاوليغاكية الزّراعيّة وطبقة رأسماليَّة ووجود فلاَّحين مهمَّشين، والَّتي تقود بحسب استقراء بارنغتون مور إلى مكافحة الشُّعبويَّة لم تتَّخذ هذا المسار في سوريا. فقد قبلت الطَّبقة الرَّأسماليَّة بنظام شعبويّ عكس ازدواجيَّة واضحة لديها، وحاولت شرعنة نفسها بإيديولوجيا شعبويَّة عن العدالة الاجتماعيَّة والمساواة التَّوزيعيَّة.
وهو ما استطاع الإصلاحيون التقاطه للدَّفع بالتَّعبئة الشَّعبيَّة إلى حدود قصوى، ولتكريس استقطاب سبَّب جمودًا عولج بالانضواء تحت حكم نظام سلطويّ رخو هو نظام الجمهوريَّة العربيَّة المتَّحدة بقيادة عبد النَّاصر أسّس بدوره لنظام سلطويّ بعثيّ فهم قادته أنَّ السُّلطويَّة الرَّخوة لا تدوم، فأحكموا قبضتهم السُّلطوية الصَّلبة، وظلُّوا يتلطّون خلف شعاراتهم الإيديولوجيَّة أكثر من أربعة عقود بينما هم يصادرون الدَّولة والمجتمع ويستبيحون الشَّعب والثَّروات.
“موقع الأوان”