Middle East Eye – ترجمة بلدي نيوز
في حفل استقبال بمدينة لندن بعد فشل محادثات جنيف، وعلى هامش مؤتمر المانحين لسورية، كان وزير الخارجية الأمريكي على وشك كشف حقيقة ما يدور في خلده، عندما تحدث معه اثنان من ناشطي الإغاثة السورية.
فلقد اتهمه عاملا الإغاثة بعدم القيام بأي شيء لحماية المدنيين السوريين من الهجوم الذي يتعرضون له في حلب، وأجاب كيري: “لا تلوموني، اذهبا وألقيا اللوم على المعارضة السورية” ووضع الخطأ على انسحاب المعارضة من المحادثات.
ومن ثم ارتبك كيري أثناء اللقاء، وقال: “ماذا تريدون مني أن أفعل؟ أن تخوض الولايات المتحدة حرباً مع روسيا؟ هل هذا ما تريدونه حقًا؟”، ثمّ توقع كيري استمرار القصف لمدة ثلاثة أشهر وخلال هذه الفترة “سيتم القضاء على المعارضة”.
وبهذه التعليقات، انحرف كيري عن الخط الرسمي من اللقاء الذي كان الهدف منه مناقشة عرض روسيا وإيران بوقف إطلاق النار، وتباينت تصريحات كيري أيضًا مع موقف وزارة الخارجية الأمريكية بأن وحشية الأسد ضد الشعب السوري قد ساعدت على تعزيز نمو تنظيم الدول الإسلامية، ويبدو الآن أنَّ السوريين الذين قاوموا وحشية الأسد هم المسؤولون عن البراميل المتفجرة التي تسقط عليهم.
وبعد اعترافات متعددة بأنَّ قوات الأسد على وشك الانهيار، وبأن هناك برامج تدريب يتم إعدادها من قبل وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، يجري الآن التخلي عن ثوار سوريا من قِبل بلد كانت تحثّهم على الانتفاض قبل خمس سنوات.
فقد بدأت الاحتجاجات بمدينة درعا بطريقة سلمية، ويشهد الجميع على ذلك، و ثمة أربعة عوامل حوّلت تلك الاحتجاجات إلى انتفاضة مسلّحة: وحشية النظام، قرار الأسد بإطلاق سراح الجهاديين من سجن صيدنايا، وهو إجراء أدى إلى “أسلمة” المعارضة، والتدخل الليبي، وتدخل القوى الخارجية مثل إيران والمملكة العربية السعودية.
ومشاهد اللاجئين اليوم على الحدود التركية ما هي إلا نتيجة مباشرة لعدم “تدخل” أوباما في سوريا وتوفير الأسلحة حتى لو كانت بمقدار 16 رصاصة فقط لكل مقاتل شهريًا، وبحسب ما ورد فقد توقف الجيش السوري الحر عن تلقي الأسلحة منذ أربعة أشهر، وفي ليبيا، تفاخر أوباما بالقيادة من الخلف، أما في سوريا فأوباما يقف مكتوف الأيدي من الخلف.
وليس ثمة شك في أنَّ سياسة كيري ذهبت أدراج الرياح نتيجة التدخل الروسي، واتضح ذلك من اجتماع كيري مع رياض حجاب، المنسق العام للجنة العليا للمفاوضات، وهي الهيئة التي تشكّلت في الرياض في استجابة لدعوات أمريكية بوحدة المعارضة السورية.
وقال كيري لحجاب إنَّ المحادثات يجب أن تبدأ قبل توقف القصف، وأنه لا يوجد جدول زمني لرحيل الأسد، وأن الهدف من المحادثات هو تشكيل حكومة وحدة وطنية، وأن فشل المعارضة في الذهاب إلى جنيف يعني قطع الولايات المتحدة المساعدات عن المعارضة، وحاول مايكل راتني، المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا، تهدئة الأمور من خلال الادعاء بأنه كان هناك سوء فهم ناجم عن ترجمة سيئة، لكنَّ حجاب فهم رسالة كيري بكل وضوح.
إن تحوّل كيري إلى حكومة دمشق حدث في أربع مراحل: المرحلة الأولى كانت عند هجوم الأسد بالأسلحة الكيميائية على مواقع المعارضة في الغوطة شرق دمشق، والتي مهّدت الطريق للوساطة الروسية التي أقنعت الأسد بالتخلي عن مخزون الأسلحة الكيميائية، وهذا منح روسيا ذريعة جيدة أمام كيري الذي رفض في ذلك الوقت الاعتراف بسلطة الأسد، إذا كان الأسد رئيساً شرعياً بدرجة كافية للتفاوض معه بشأن التخلي عن مخزون المواد الكيميائية، فإنه بالتأكيد سيبقى رئيساً للحكومة الانتقالية الجديدة، وفي كلتا الحالتين كان لا بُدّ من الاعتراف بالأسد كرئيس للدولة بحكم الأمر الواقع، هذا هو المنطق الذي تقبله كيري الآن.
المرحلة الثانية: كانت الموصل، وهي مدينة تسيطر عليها أربعة ألوية من الجيش العراقي الذي خضع لبرامج تدريبية من الولايات المتحدة وصلت قيمتها إلى 25 مليار دولار، والتي استولى عليها بعد ذلك 350 مقاتلًا من تنظيم الدولة.
أما المرحلة الثالثة: فهي التدخل الروسي في 30 أيلول الماضي، وكانت هجمات باريس هي المسمار الأخير في نعش سياسة كيري في سوريا، ومنذ ذلك الحين، بدأ كيري في رؤية الأسد باعتباره “أهون الشرين”، واتفق كيري مع سيرغي لافروف في أن روسيا قد أنقذت دمشق من الوقوع في أيدي تنظيم الدولة.
وعلى نحوٍ خطير، رأى كيري الصراع السوري باعتباره معركة ثنائية بين نموذجين من الديكتاتورية الغاشمة: الأسد وتنظيم الدولة، وهذه هي الطريقة التي يؤطر بها الأسد، وروسيا وإيران والعديد من الأنظمة الاستبدادية العربية الأخرى، في مصر والإمارات والأردن، الصراعات الحالية في الشرق الأوسط، كما أنها واحدة من الأسباب الرئيسية لزيادة قوة تنظيم الدولة.
ولرؤية حرب أهلية من خلال هذا المنظور، يجب أن تقنع نفسك بأن معارضة الأسد تتألف حصراً من المتطرفين الجهاديين السلفيين، بدعم من المذاهب الوهابية من المملكة العربية السعودية و أردوغان في تركيا، ويجب أن تقنع نفسك بأن الثوار السوريين، مثل تنظيم الدولة، يريدون فرض نموذج الدولة الدينية الوحشية على الدولة العلمانية.
باختصار، عليك أن تُخرج من هذا المشهد وجوه وآراء غالبية السكّان السُنة في المنطقة، وينبغي عليك أن تصم آذانك عن شهادة 4.6 مليون لاجئ مسجل لدى المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.
كما أن ثمة نزوح آخر ضخم في طريقه في حلب، وهناك 150 ألف من المدنيين يعيشون في تلك المدينة التي يسيطر عليها الثوار شرق حلب، وما يصل إلى 250 ألف آخرين في المنطقة. وما يقرب من 70 ألف اتجهوا إلى الحدود التركية نتيجة للقصف الروسي وتقدّم قوات الحكومة، في حين ينتظر أكثر من 31 ألف على الحدود.
شهادة اللاجئين
لماذا يهربون؟ ومِن مَن؟ هل أخرجهم الجهاديون الذين يفرضون عليهم الشريعة الإسلامية؟ هل يهربون من ترحاب الجمهورية الليبرالية العلمانية متعددة الطوائف، كما يحب الأسد أن يصف سوريا؟ إذا كان الجيش السوري قوة منضبطة، كما يزعم أنصاره، لماذا يشعر مئات الآلاف من المدنيين بالرعب من تحريره لهم؟
لقد قضيتُ أسبوعًا في مخيمات اللاجئين على الحدود الشمالية الأردنية أطرح هذه الأسئلة، وأذهب من خيمة إلى خيمة بحثًا عن أجوبة، وفيما يلي عينة تمثيلية من الردود التي حصلت عليها:
“متعب”، موظف حكومي، كان رئيس قسم النقل في حي بابا عمرو بمدينة حمص التي أصبحت بؤرة الاحتجاجات المناهضة للحكومة، يقول متعب: ”لم تكن هناك أسلّحة على الإطلاق لمدة ستة أشهر، ثمّ بدأ الناس باستخدام الأسلحة عندما رأوا وحشية النظام، حيث كانت الشرطة تجرّد النساء من ملابسهنّ، وتضعهنّ فوق الدبابات حتى يراهم الناس”.
وأنقذ قائد إحدى العمليات حياة متعب، الذي يحكي: “دخل الجيش السوري قريتنا واعتقل وقتل الكثير من السكّان، لقد أرادوا تلقين المنطقة درسًا لن تنساه، كنت واحدًا من 16 شخصًا أنقذهم هذا القائد، لا أعرف لماذا أنقذني، كانت إرادة الله، أما الباقي فقد انهالت عليهم طلقات الرصاص من الرشاشات، لقد أطلقوا النار على الناس في منازلهم وتركوا جثثهم هناك لتتعفن، وكثير من أبناء عمي والنساء في عائلتي قُتلوا هناك، قُتل ما يقرب من 1661 شخصًا في ذلك اليوم“.
كل اللاجئين لديهم تاريخ خاص محفور في أذهانهم، تحكي “عنود”: “لقد وضعوا رجلًا على السياج كهدف للتدريب على الرماية، لدرجة أن الجنود كانوا يراهنون على مَن يستطيع قنصه”. ويروي محمد كيف تمّ القبض على اثنين من حرّاس الأمن، وتقطيع أوصالهم بالمنشار.
وتضيف عنود: “أتى الجيش أولًا ثم أعقبه الشبيحة (الميليشيات الطائفية المدفوعة من الدولة). لم يعد لدينا جيش بعد الآن، بل لدينا ميليشيات إيرانية مزودة بأسلحة ذبح فقط. إذا استسلمت لهم، يذبحونك فحسب….. لقد رأيت ذلك بأم عيني وهم يقطعون أذرع أو رؤوس السوريين. لم يعد هناك جيش سوري، الإيرانيون هم من يفعلون ذلك، إنهم متوحشون، يسرقون بضائعنا، وإذا حاولت الدفاع عن نفسك، يقتلونك على الفور، بعد أن ينهبوا منزلك ثمّ يحرقونه“.
وقال سليمان، الذي فرّ من قريته التي تبعُد 27 كم من مدينة حلب: “القرية مُحاطة بالجبال، ليس لدينا رجال مسلّحين، ولا إرهابيين، ولكن في 3 كانون الأول عام 2012 أسقطت علينا القوات الجوية البراميل المتفجرة وأطلقوا صواريخ غراد مما أسفر عن مقتل 1500 شخص”.
وقال فرحان، مزارع من ريف حمص: “نحن المزارعون لم نهاجم النظام بل هو مَن هاجمنا وذبحنا، وإذا جاء النظام لتوفير الحماية، فلماذا يقصفوننا، لماذا يحاصروننا، لماذا يمنعون عنا الخبز؟“.
أما سمر فكانت تقود السيارة مع زوجها سعيد مع أطفالهما الأربعة عندما وصلت إلى نقطة تفتيش، واُعتقل سعيد، وكان ذلك قبل ثلاث سنوات، وتقول سمر: “زوجي كان مزارعاً وأتمنى من الله أن يعود”.
وتستمر القصص من خيمة لأخرى:
في فرع المخابرات الجوية بمدينة حلب، عانى أحد المعتقلين من جرح ملوث في ساقه تعرض له خلال التعذيب، وأصبح غير قادر على الوقوف، وفي النهاية تمّ وضعه في الممر خارج الزنزانة، ولم يتلق أي رعاية طبية، وبعد بضعة أيام لاحظ زملائه المعتقلين أنه قد مات، وفي وقت لاحق، استطاعت عائلته الحصول على جثته من خلال قنوات غير رسمية، ونظرًا لآثار التعذيب والهزال الشديد في جثته، لم تستطع عائلته التعرف عليه في البداية إلّا من خلال علامة مميزة في جسده.
وفي عام 2014، تمّ تشويه الأعضاء التناسلية لأحد المعتقلين في مركز تحت سيطرة الفرقة الرابعة من الجيش السوري، نزف المعتقل بشدة وتُرك من دون علاج، ثمّ توفي بعد ثلاثة أيام.
وفي معتقل آخر في فرع الأمن العسكري بمدينة حمص شهد تعرض رجل مسن لضرب مبرح، وتعليقه من معصميه في السقف، واستخدم الحرّاس السجائر لإحراق عينيه، وخرق جسده بأداة معدنية ساخنة، وبعد تعليقه لمدة ثلاث ساعات، مات الرجل.
عندما تسأل اللاجئين السوريين في الأردن الذي يقضي الكثير منهم الشتاء الثالث في الخيام، عن الشيء الذي من شأنه إقناعهم بالعودة، تحصل على الإجابة بكلمة واحدة فقط.
يقول ياسين، وهو عامل بناء لم يشارك في الانتفاضة الثورية، فقد ثلاثة من أبناء عمومته بسبب البراميل المتفجرة: “السلام والأمن”، سألته: “هل يمكن أن يوفر لكم الجيش السوري السلام والأمن؟ نظر ياسين في وجهي كما لو كنت مجنونًا”.
هل كانت هناك أي وسيلة يمكن أن يعيش من خلالها متعب تحت سيطرة الجيش السوري؟ لا. الجميع هنا سيقول لك ذلك”. يبلغ عدد اللاجئين بمخيم الزعتري 80 ألف لاجئ، وهو أكبر مخيم للاجئين في الأردن، والذي تحول إلى مدينة صغيرة، وهناك عشرات الآلاف في الخارج.
يقول أحد اللاجئين: “إذا كانت هناك مصالحة وطنية حقيقية، يجب تقديم الذين ارتكبوا هذه الجرائم إلى العدالة، نحن نعرف أنَّ النظام هو المسؤول عن هذه الجرائم، وإذا لم يكن هناك مصالحة وطنية قابلة للتحقيق، فإنه من المستحيل أن نتعايش مع النظام مرة أخرى”.
الفلسطينيون الجُدد والنكبة السورية
لقد فقد الأسد شرعيته إلى الأبد بقدر ما يشعر هؤلاء الناس بالقلق، ناهيك عن غالبية المجتمع. ليس هناك وقف لإطلاق النار ولا حكومة وحدة وطنية يمكنها أن تغيّر هذا الواقع السياسي. لذلك، خسرت الدولة السورية والجيش ومؤسساتها الكثير من سلطتهم، إنهم صامدون فقط بسبب التدخل الأجنبي من روسيا وإيران وحزب الله.
كما أنَّ مزاعم روسيا بإنقاذ سوريا وليس قائدها هي ادّعاءات معيبة لا أساس لها من الصحة، فلقد أنقذت الأسد على حساب إضعاف الدولة السورية، ودخلت روسيا في هذا الصراع من خلال الزعم أنه لا يوجد نصر عسكري محتمل، ولكن الأسد يؤمن الآن باحتمال تحقيق نصر عسكري في الفترة القادمة، رغم نزوح اللاجئين، وضعف الدولة وتلاشي احتمالات السلام.
لقد أصبح اللاجئون السوريون حقيقة سياسية متزايد الأهمية بعد أن تخلت عنهم الولايات المتحدة، وخانتهم الحكومات العربية، وأغلقت أوروبا أبوابها في وجوههم، وتوجد أوجه تشابه بين مصيرهم ومصير الفلسطينيين بعد قيام إسرائيل عام 1948.
كان السوريون والفلسطينيون يمثلون غالبية السكّان الذين طردتهم القوى المتوافقة عسكريًا والمدعومة من الاستعمار، كما أقنعت الحكومات العربية كلا الشعبين (السوري والفلسطيني) أنهم سيعودون قريبًا إلى بلادهم وأنهم سيقاتلون من أجلهم، وفي النهاية، تعرض الشعب السوري والفلسطيني للخيانة من العالم بأسره.