صبحي حديدي
«جبهة العاصفة» Stormfront، المنظمة العنصرية الأمريكية التي تنادي بتفوّق البيض عرقياً وثقافياً، وترفع راية «القومية البيضاء»؛ كانت في طليعة المنظمات التي ناصرت دونالد ترامب، وانخرطت طواعية في حملات انتخابه لرئاسة الولايات المتحدة. طبيعي، إذن، أن تطالب بحصتها في الكعكة، العنصرية بادئ ذي بدء؛ وأن تجأر، أكثر من أيّ وقت مضى، بتفاصيل أوضح (أي: أشدّ عنصرية وكراهية للآخر) حول المسارات الراهنة لمرتكزاتها الإيديولوجية.
وهكذا، في المنتدى المخصص لأعضاء المنظمة على الإنترنت، نقرأ تشخيص كرت ديتريش لـ»الحقائق العشر الخالدة للقومية البيضاء». أنّ «القومي الأبيض»، مثلاً، «يضع العرق فوق كلّ اعتبار، ويقدّم كلّ وأي تضحية ضرورية لإعلاء شأن القومية البيضاء»؛ وأنه «يفخر بتاريخ، وثقافات، وقِيَم، وأخلاقيات، وإنجازات شعبه»، و»يعيش وفق الأعراف التي استنها أسلافنا». كذلك فإنه «يقوّي جسده عبر الحياة الصحية، ويشحذ ذهنه عبر اقتفاء المعرفة، ويحصّن روحه بالتصميم الثابت، ساعياً إلى أن يصبح تجسيداً للقومية البيضاء، ووسيلة لتحقيق انتصارها». ولهذا فهو، أيضاً، «يسبغ مغزى خاصاً على مفهوم الشرف»، و»لا يستسلم، أو يتراجع، ويفضّل المنيّة على قبول الهزيمة»…
وقبل أن تتكامل مناخات الهذيان القومي والعنصري، على شاكلة أسوأ من هذه، في أثناء حملات ترامب؛ كانت نُذر «جبهة العاصفة» قد تجسدت سنة 2009 على يد المواطن الأمريكي جيمس فون برون: 88 سنة، أبيض البشرة، النقيب السابق في البحرية الأمريكية خلال الحرب العالمية الثانية، الحائز على أربع نجوم تقدير بسبب بسالته في القتال، حامل البكالوريوس في الصحافة، وعضو جمعية Mensa التي تزعم أنها تضمّ الـ 2٪ الأذكى في الولايات المتحدة. هذا الرجل اقتحم متحف الهولوكوست في قلب واشنطن، على مرمى النظر من البيت الأبيض، مدججاً ببندقية، وأطلق النار، فجرح عدداً من حرس المتحف، وأودى بحياة أحدهم، قبل أن يخرّ هو نفسه صريع طلقاتهم.
لم يكن فون برون يخفي أفكاره الكارهة لليهود، وهذا ما كان المرء يلمسه دون عناء عند زيارة موقع الرجل الشخصي على الإنترنت، وقراءة بعض كتاباته؛ وبينها مقالة بعنوان «خطأ هتلر الأسوأ: أنه لم يحرق اليهود بالغاز!»، على سبيل المثال الأوضح. لديه، كذلك، كتاب بعنوان Tob Shebbe Goyim Harog، مستمدّ من عبارة شهيرة جاءت في التلمود، وتُنسب إلى الحاخام شمعون بن يوشاي، تقول بالحرف: «أقتلوا حتى الأخيار في صفوف الوثنيين اللايهود». وإذا انتُزعت هذه العبارة من سياقاتها التاريخية والحربية الصرفة، كما يساجل بعض فقهاء التلمود، فإنها سوف تبدو دعوة صريحة إلى الإبادة الجماعية.
الجانب الثاني في أفكار فون برون كان يخصّ اليقين ـ الذي تشترك فيه فِرق أمريكية عديدة، بأنّ المصرف المركزي الأمريكي، أو الاحتياطي الفدرالي، ليس سوى مؤامرة يهودية صرفة لإحكام القبضة المالية، وبالتالي السياسية، على مصائر الولايات المتحدة. ولهذا قام فون برون نفسه، في سنة 1981، بمحاولة «وضع الخونة من هيئة حكّام الاحتياطي الفدرالي، قيد الاعتقال القانوني، غير العنيف»، حسب تعبيره؛ فحاكمته «هيئة محلّفين زنجية» و»هيئة ادعاء يهودية/ زنجية»، وحكم عليه «قاض يهودي» بالسجن 11 سنة، كما أنكرت عليه حقّ الاستئناف محكمة «يهودية/بيضاء/سوداء»… وبالطبع، هذه السلسلة من الاتهامات المضادّة التي صدرت عنه، وسواها سيقت ضدّ كارل ماركس والنظام النقدي وقبيلة الخزر والزنوج والتوراة ووسائل الإعلام… لم تكن تدلّ على تضخم واضح في حسّ البارانويا، فحسب؛ بل كانت كاشفاً صريحا على عنصرية فون برون التي لا تكاد توفّر أحداً من غير البيض، الآريين منهم على وجه التحديد.
لكنّ الرجل، على نقيض ما حاولت أن توحي به وسائل الإعلام الأمريكية، لم يكن حالة «منعزلة تماماً»، سواء على المستوى الفردي، أو حتى ضمن نطاق منظمته التي يطلق عليها اسم «إمبراطورية الغرب المقدّسة»؛ بل اندرج في تراث أمريكي واسع ضارب الجذور، لعلّ «جبهة العاصفة» هي أوضح تعبيراته اليوم. وهذه المنظمة أطلقها ـ سنة 1994، على شبكة الإنترنت ـ دون بلاك، القيادي السابق في منظمة Ku Klux Klan العنصرية، ثمّ القيادي في «حزب البيض القومي» الذي كان اسمه «الحزب النازي الأمريكي» حتى العام 1967.
شعارها هو «الفخار الأبيض على امتداد العالم»، وتقول أحدث الإحصائيات إنّ عدد زائري الموقع ارتفع من 5000 سنة 2000 إلى 52,500 سنة 2005، كما أنّ أعداد المنتسبين الجدد إلى هذه المنظمة تجاوزت الـ 2000 بعد وقت قصير من إعلان فوز باراك أوباما في الانتخابات الرئاسية. بين أبرز أعضائها قتلة بدم بارد، أمثال ويد مايكل بيج، الذي قتل ستة اشخاص في معبد للسيخ، في ميلوكي، قبل أن ينتحر؛ وريشارد بوبلوفسكي، الذي قتل ستة ضباط شرطة في بتسبورغ. «إذا صرف المرء وقتاً أطول في محاولة فهم هؤلاء، فإنه سيستخلص نسقاً يجمعهم»، تقول هايدي بيريش، التي صرفت سنوات في تحليل موقع «جبهة العاصفة». وهي تتابع: «ثمة خرافة تقول إنّ هؤلاء القتلة يختبئون في الظلّ، فالمحققون اكتشفوا بسهولة أنهم يبشرون بعقيدتهم علانية على الموقع»؛ الذي تطلق عليه بيريش تسمية «رأسمال القتل على الإنترنت».
لكن الأمر لا يقتصر على التبشير العقائدي، ففي أمريكا اليوم الآلاف من المسلّحين المدرّبين الذين يشكّلون الذراع العسكرية الضاربة لعشرات الميليشيات الدينية والسياسية، التي تحتسب في صفوفها أكثر من خمسة ملايين منتسب. وهذه الجماعات تنتظم في سلسلة تحالفات عريضة، ولكنها تلتقي حول مناهضة الصيغة الفدرالية للحكم في الولايات المتحدة، وتدعو إلى (بل استخدمت وتستخدم) العنف كوسيلة كفاحية لصون الحرّيات الفردية ضدّ ما تسمّيه «الطغيان الفدرالي». استطلاعات الرأي في أمريكا تشير إلى أنّ 15 ـ 18٪ من الناخبين ينتمون إلى كنائس أو حركات على صلة بتلك الجماعات، وقد أشارت إحصائيات إلى أنّ 33٪ من هؤلاء ينتمون إلى الحزب الجمهوري، 62٪ ذكور، 97٪ بيض، 85٪ متزوجون، 23٪ يحملون شهادات جامعية، و47٪ شهادات عليا بعد الجامعة…
ولائحة بعض هذه المنظمات هي الكاشف الأوّل على طبيعتها: «التحالف المسيحي»، «الأمم الآرية»، «الوطنيون المسيحيون»، «الهوية المسيحية»، «رابطة البندقية الوطنية»… وأمّا خطوطها الإيديولوجية فيمكن أن تبدأ من افتراض وجود مؤامرة دولية عليا لتقويض الحلم الأمريكي، وقد تمرّ من التنظير التبشيري للقيامة الثانية ومجيء المخلص، ومعظمها ينتهي إلى التغني بالمسيحي الأبيض بوصفه المسيحي المجيد الوحيد. وعلى سبيل المثال لا الحصر، ترى ميليشيا «الدفاع الدستوري»، في ولاية هامبشير، أنّ بين علامات قيام الساعة لجوء السلطات الفدرالية الأمريكية إلى تغيير تصميم ورقة الدولار، وإضافة أرقام إلكترونية غير مرئية؛ وهذه ليست سوى «سمة الوحش الشيطاني» كما حددّها يوحنا اللاهوتي في رؤيته الثالثة عشرة!
واليوم، بعد انتخاب ترامب، كان محتماً أن يفسح اللاهوتي مكاناً، ومكانة، للكهنوتي؛ في شخص رئيس تتآمر عليه الصحافة، ويعطّل قراراته القضاة، ويكبّل الكونغرس يديه! «استيقظْ، أيها الأمريكي المسيحي! المسلمون الإرهابيون صاروا بين ظهرانينا لأنّ حكومتنا ذاتها قد خانتك، بهدف تدمير ديننا»، يقول شعار الـ»كو كلوكس كلان»؛ وتصادق عليه «جبهة العاصفة». فإذا استيقظ ذلك الأمريكي المسيحي، وأنس في نفسه بعض تشخيصات كرت ديتريش حول «الحقائق العشر الخالدة للقومية البيضاء»؛ فإنّ انتقاله إلى لاهوت القتل، وبالتالي كهنوت العنصرية، لن يستغرق إلا خطوات معدودات؛ مضرجة بالدم، بعد الكراهية والتعصب الأعمى، غنيّ عن القول!
٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس