يمكن إرجاع أصل فكرة العلمانية إلى الفيلسوف اليوناني “انكساغوراس”، الذي يُعدّ أول من أُطلق عليه لقب كافر في تاريخ الإنسانية؛ بسبب تمرده على نظريات اليونان حول طبيعة الأجسام السماوية والأرضية، وعدّها من طبيعة واحدة؛ لأنه هو الذي أسس للفكرة، بما تعنيه من نسبية المعرفة البشرية، وضرورة التفكير بالنسبي بما هو نسبي.
والحدث الآخر الذي تسبب في إحداث قفزة تطورية في وعي الإنسان الغربي باتجاه مفهوم العلمانية هو نظرية “كوبر نيكوس”، هذه النظرية التي نقضت فكرة مركزية الأرض، وقررت أنها كوكب طرفي، وبالتالي فليس من حق الإنسان الذي يعيش عليها أن يعدّ نفسه محتكرًا للحقيقة المطلقة؛ لأنه لم يعد مركزًا للكون، وكل معارفه نسبية، موقّتة، قابلة للتطوير، والتبديل، والتجديد.
نسبية المعرفة البشرية التي تُعد جذر العلمانية الفلسفي هو ما كرّسه الإسلام الذي ختم الوحي الذي يمثل العلم المطلق، وبذلك لم يعد في معادلة العلم والمعلوم إلا المعلوم النسبي، بعد أن انتهى العلم المطلق.
قد يكون الانحراف عن الإسلام المحمدي هو في تغييب جانبه العلماني، قبل أي شكل من أشكال الانحراف الأخرى.
فالإسلام -بما هو حل وسط لحديه الإنجيلي والتوراتي؛ بمعنى أنه ليس حلولًا للإله في الإنسان، وتغييبه، كما في الإنجيلية، ولا حصرًا عنصريًا له في شعب مختار، كما في التوراتية- قد أدخل الإنسان في التاريخ عن طريق تجنب إخراج الإنسان من التاريخ، كما في الأولى، وإقحام الإله في التاريخ بفعل عنصري يلغي التاريخ، كما في الثانية.
الوحي الذي خُتم مع الرسالة المحمدية، جعل من علم الإنسان وعمله نشاطين نسبيين، يصبوان إلى المطلق الذي لا يستطيعان إلا الدنوّ منه، من دون تحقيقه؛ فلا علم الإنسان هو عين وجود الأشياء، ولا عمله هو قيمتها الذاتية.
هو تنسيب للعلم والعمل، يكرّس تاريخية الإنسان ببعدي نشاطه: النظري والعملي، بنفي إطلاقهما الذي يجعلهما فوق التاريخ، وفوق الطبيعة.
الانفصال بين الخالق والإنسان، بفعل ثنائية الوحي والعقل، والصفة المطلقة للأول والنسبية للثاني، هما المصدر الأساس للسمة العلمانية للإسلام؛ لأنها تتطابق مع ما تتطلبه العلمانية من نفي للإطلاق في الشأن الدنيوي النسبي والمتغير.
لعل إبراز هذا الجذر الكامن في مفهوم الاستخلاف القرآني هو الكفيل برفع الغطاء عن الصلة بين الإسلام والعلمانية؛ فالخليفة ليس ندًا للإله، وهو يعلم علمًا نسبيًا عن طريق الاجتهاد، لا يمكن أن يكون مطابقًا لماهيات الأشياء، وإلا أصبح علمه مطابقًا لعلم الإله، ولكنه دائب السعي بأمر من مستخلِفه؛ لمواصلة النظر في خطابي المستخلِف، وهما الطبيعة والشريعة.
من هنا؛ فإن مفهوم التأويل الذي كان موضع خلاف بين المدارس الإسلامية، والذي كان مصدره الآية القرآنية:
{هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب}. (آل عمران، 7)
هو مفهوم محوري يضخّ الحركة في محاولات مواكبة تجديد الخطاب الإسلامي؛ من أجل التصدي لمحاولات إخراج المسلم من التاريخ، وهو المنتمي إلى الرسالة التي كانت الأجدر بإدخال الإنسانية في التاريخ.
على الرغم من وجود قراءتين للآية، تقف إحداهما عند لفظ الجلالة في الآية، جاعلةً من علم التأويل مقتصرًا على الله، وتعطف القراءة الثانية على لفظ الجلالة الراسخين في العلم، وتجعلهم عالمين بتأويل ما تشابه منه، فإن ضرورة قراءة النص قراءة معاصرة لنا، تقتضي الأخذ بالقراءة الثانية التي تفتح فضاء التأويل أمام الفهم الإنساني؛ لأن قصره على الله بعد انقطاع الوحي، منعٌ للخليفة من المبادرة التي أمره بها المستخلِف، وحجر على عقله الذي أمره المستخلف باستخدامه؛ لفهم آلائه طبيعية وشرعية.
يتطلب التوحيد المحض نسبية معرفة الخليفة، وإطلاق معرفة المستخلِف، وإلا صار الخليفة ندًا لمستخلِفه.
لهذا؛ فإن إعادة الوحي عن طريق إمام معصوم، كما هو الحال لدى الشيعة، انحرافٌ عن غاية الإسلام المحمدي الذي قال إنه ختم الوحي، ومسخٌ لغايته المتمثلة في إبقاء النسبي، وختم المطلق الذي يبقى غاية، يصبو إليها نظر الإنسان وعمله النسبيان، وهو يقوم بمهمة إعمار الأرض التي استخلفه الله عليها.
في إطلاق مضمون المعلوم الموحى به، وهو نسبيّ؛ لأنه ليس الوحي ذاته، كما تفعل السلفية الظاهرية، برفضها التأويل، والأخذ بحرفية النصوص، انحرافٌ عن الإسلام المحمدي الذي ينطوي مفهومه للخلافة على نسبية علم وعمل الخليفة، وسعيهما الدائمين لمقاربة المطلق، من دون التطابق معه.
إن ماهيات الأشياء وقيمها الذاتية، محلّ نظر الإنسان وعمله، ومحلّ مبادرته الحرة، والتي لا تتناقض مع عبوديته للمطلق الذي منحه هذه الحرية في العلم والعمل، واستعادة المطلق باستعادة الوحي عن طريق إمام معصوم، أو عن طريق رفض التأويل، وإطلاق حرفية الفهم النسبي لحرفية النص، انحراف عن جوهر الإسلام المحمدي الذي تكمن عظمته في سمته العلمانية، بالمعنى الذي ذكرناه آنفًا، وفي إدخاله الإنسان في التاريخ، عبر استخلاف الله له؛ لكي يعمر الأرض بعلم وعمل، لا ينفكان عن سمتيهما النسبيتين.
تعريف: إن جذر العلمانية كمفهوم هو نسبية المعرفة البشرية، وهو ما يتطابق مع ما يتطلبه مفهوم الاستخلاف القرآني الذي لا يجوز-وفقًا- له أن تكون معرفة الإنسان- الخليفة- مطلقة؛ لأنها بذلك تطابق معرفة الله- المستخلف- وهو ما يخرم عقيدة التوحيد.