حاوره: عبد الله أمين الحلاق وسامي حداد
يحتل الكاتب الصحافي والباحث الإيطالي ريكاردو كريستيانو موقعاً مهماً في الساحة الثقافية والسياسية الإيطالية، نظراً لتعمقه في قضايا الشرق الأوسط ودراساته وكتاباته في هذا المجال. عمل مراسلاً للتلفزيون الرسمي الإيطالي من الشرق الأوسط، ثم منسقاً للأخبار الدينية لراديو “راي” الرسمي. له مؤلفات عديدة عن الشرق الأوسط والحوار بين الأديان، بالإضافة إلى مؤلفات عن سوريا ومنها “سوريا: آخر المذابح”، و”سوريا: نهاية حقوق الإنسان”. يتميز بمواقفه المؤيدة للثورة السورية ومناهضته لأنظمة الاستبداد والاحتلال في منطقتنا وتصديه لمؤيدي النظام والمروجين له في الأوساط الثقافية والسياسية الإيطالية، وهو من المقربين من البابا فرنسيس والمؤيدين لرؤيته الإصلاحية ولوثيقة الأخوة الإنسانية، كما أنه من مؤسسي جمعية الصحافيين أصدقاء الأب باولو دالوليو الذي تجمعه به صداقة شخصية عميقة.
وهنا نص الحوار:
* أنت تكتب دائماً حول مواقف الكرسي الرسولي في الفاتيكان، وعن أحوال المسيحيين في سوريا في ظل الانقسام الحاصل بين هؤلاء، بدرجات مختلفة، حول الموقف من النظام السوري. ما الذي يجعل بعض المسيحيين السوريين في رأيك مشدودين إلى خطاب النظام على الرغم من أن مواقف البابا كانت واضحة بهذا الشأن وخصوصاً في رسالته التي أرسلها إلى رأس النظام السوري قبل فترة؟
**بداية أود أن أذكر أن البابا كتب رسالتين إلى بشار الأسد، أولاهما في نهاية الحصار على حلب الشرقية طالبه من خلالها باحترام القانون الإنساني الدولي وحقوق الإنسان التي يجب أن يتمتع بها السكان، في تلك المناسبة نشر النظام خبر استلام الرسالة، قالباً مضمونها رأساً على عقب، رغم أنه كان من المفروض بالنسبة للفاتيكان أن تبقى هذه الرسالة سرية مما استدعى تدخل الكرسي الرسولي لإيضاح أن ما نقلته دمشق لم يكن صحيحاً بل مغايراً للمقصود تماماً. أما الرسالة الثانية فقد أرسلت في تموز/يوليو من العام الماضي، لكن هذه المرة واستناداً إلى التجربة السابقة لم ينشر الفاتيكان مضمون الرسالة بالكامل بل مغزاها وأعلنه بشكل رسمي وفوري. وكما هو معلوم، فقد أعرب البابا فيها عن قلقه العميق على السكان المدنيين في محافظة إدلب وطالب بحماية حقوقهم بالإضافة إلى مطالبته بوقف كل الانتهاكات المتعلقة بحقوق الإنسان في سوريا. وأخيراً، في مقابلة تلفزيونية سُمح لقناة التلفزيون الرسمي الإيطالي “راي” بإجرائها وبثها التلفزيون السوري أيضاً، ذكر الأسد أن الفاتيكان يعتمد في آرائه على ما يُكتب ويُنشر في الغرب. فهل يعقل أن يبني البابا مواقفه بناء على ما يُكتب في الغرب؟ إن مجرد التفكير بأمر كهذا يثير سخرية أي شخص يعيش هنا فما بالك لو تم التأكيد عليه؟ أعتقد أن كلمات الأسد موجهة إلى المستمعين المحليين أي إلى السوريين. لقد أراد أن يقول لهم إن الفاتيكان استعماري! هذه هي الرسالة المقصودة والتي ربما صدقها البعض، لكنها محاولة لقلب الحقائق.
بعد التذكير بهذه الأمور أود أن أبدأ هنا ليس من البابا فرنسيس، بل من البابا يوحنا بولص الثاني. ففي مذكرات البابا كارول ويتيلا التي خطها عنه أندريا ريكاردي، يتحدث عن مأدبة غداء حضرها قبل انهيار جدار برلين ويروي ما قاله له البابا في تلك المناسبة: “إن مشكلة الكنيسة الروسية هي خضوعها للسلطة السياسية أو ما يدعى بالقيصرية الباباوية إن صح التعبير”. واليوم كما في حقبة القياصرة سابقاً، لا تزال هذه العقلية هي المهيمنة، لهذا فإن الكنيسة الروسية بقيت خاضعة للدولة على الدوام وعلى كافة الأصعدة. بالتأكيد كان للكنيسة الروسية شهداؤها، لكن ما عددهم؟ لا أحد يستطيع تحديد ذلك أو الحديث عنه إضافة إلى أن فكرة روما الثالثة لم تنطفئ بعد، ألا وهي أن تصبح كنيسة موسكو… روما الجديدة.
إن “القيصرية الباباوية” هي المشكلة، وبما أن هذا التعبير مضمر غير مصرح عنه ولكن موافق عليه، فلا بد أن أوضح هنا أن “القيصرية الباباوية” تعني ولاء البابا للقيصر أي للسلطة السياسية الوطنية، وهذه المشكلة شائعة في كل العالم الأرثوذكسي الذي طوّر نظريته القائمة على الانسجام بين السلطتين السياسية والروحية.
لكن هذا الانسجام عندما يرتبط ببعض السلطات يتحول إلى خضوع. وفي الشرق خلال الحكم العثماني، أُضيف َ إلى هذا المفهوم نظام الملل الذي قبلت به الكنائس آنذاك، بل حبذته لدرجة أن المؤرخ أحمد جودت باشا كتب أنه عندما صودق على الإصلاحات القانونية والدستورية، أعرب بعض البطاركة عن أسفهم على النظام القديم الذي وإن كان يضع المسيحيين في مرتبة أدنى من المسلمين حسب التنصيف العثماني، إلا أنه يضعهم في مرتبة أعلى من اليهود.
في رأي الفاتيكان وفي رأيي الشخصي أيضاً، لم يقبل المسيحيون العاديون في سوريا كما في بلاد كثيرة أخرى بنظام الأقليات المحمية. وكان الفاتيكان ومنذ عهد البابا بولس السادس يطالب دائماً بمواطنة كاملة ومتساوية للجميع وهذا ما يتمناه مسيحيو العالم العربي، وإن كان العديدون منهم يخشون، ولهم الحق في ذلك، الأصوليين ويقبلون “الحماية” خوفاً من نظام أكثر قمعاً من النظام الحالي.
هذا الشعور السائد هو وليد عوامل مختلفة منها فقدان الثقة بالإسلام، فغياب الحوار الديني الحقيقي وليس المقصود هنا بالحوار بين الأديان، بل الحوار بين أشخاص على أرض الواقع، أشخاص حقيقيين من لحم ودم، زاد بعد عام 2001 خصوصاً من شعور عدم الثقة الإيديولوجية. وفي هذا السياق لعبت الوهابية بمنظورها المرفوض من الغرب ومن الأشخاص المتمدنين دوراً لا بأس به.
كما لعب نظام الأسد دوره أيضاً. فالحوار بالنسبة له هو الحوار بين الأسد والمطارنة والمفتي. من جهة أخرى يعتقد الكثير من السياسيين الغربيين ولأسباب مرتبطة بالسياسة الداخلية في بلدانهم الأوروبية أو الغربية، أن تنمية شعور عدم الثقة هذا يصب في مصلحتهم، فهم في الحقيقة غير عابئين بمستقبل المسيحيين وحياتهم في سوريا أو في البلدان العربية الأخرى لأن خطابهم السياسي قائم على ما يُسمى بنظرية “صراع الحضارات”. ويصرّ البابا فرنسيس على الاستمرار في إلغاء هذه النظرية، وهو توصل مع الإمام الطيب إلى الإعلان التاريخي في أبو ظبي عن “الأخوّة والمواطنة”. في رأيي يجب أن تُشرح هذه الوثيقة في كافة المدارس والجامعات والمقاهي العربية وإن كنت أشك في حصول ذلك.
* “إعلان أبو ظبي” يؤسس، من وجهة نظرك، لعلاقة جديدة بين المسلمين والمسيحيين على أسس جديدة. ألا تعتقد أن الحديث عن أوراق فكرية وتناول مسائل الإصلاح الديني هو أمر صعب اليوم بمعزل عن الحديث في صلب السياسة وطبيعة النظم الحاكمة في المنطقة العربية (والعالم)؟
**هناك تعبير هام سائد في إيطاليا حول الأنظمة والإرهاب المبرر دينياً: “إنهم كلصوص بيزا، يتشاجرون نهاراً لكنهم في الليل يسرقون معاً”. إن العلاقة بين الإرهاب وأنظمة الحكم العربية وغير العربية تشبه العلاقة بين لصوص بيزا باعتقادي. من الواضح أن الإرهاب يثير الرعب في قلوب المسيحيين والرأي العام الغربي وهذا ما يصب في مصلحة الأنظمة التي تستمد من الإرهاب شرعيتها الدولية المفقودة. ماذا يمكن للدين أن يفعل؟
وماذا يمكن للأديان أن تفعل؟ لا تكفي إدانة الإرهاب بل يجب أن يقال كما قيل في أبو ظبي: إننا أخوة بالنسبة للإسلام والمسيحية معاً، واسمحا لي أن أدعو قرّاءكما إلى الابتعاد عن مفاهيم القومية العربية والأمة الإسلامية.
لأنهما إيديولوجيتان باليتان وفاشلتان! فالمجموعة السياسية في سوريا مكونة من سوريين بالدرجة الأولى ثم يختار كل واحد منهم دينه. يجب أن تتحول حرية الضمير إلى القاسم المشترك بين كل الأديان.
وهذا لا يعني جعل الإسلام مسيحياً. أذكِّر هنا أن الباباوات في القرن التاسع عشر كانوا ضد حرية الضمير وبذل البابا يوحنا الثالث والعشرين جهداً كبيراً في إصراره على إدراج تعبير “حقوق الإنسان” في إحدى رسائله الرعوية الباباوية، فحتى ذلك التاريخ، أي حتى عام 1950 كانت الحقوق لله فقط.
التاريخ يمشي قدماً والأديان تمشي مع الإنسان والتاريخ. وما يحصل اليوم في الساحات اللبنانية والعراقية هو في جوهره التقاء، في مكان ما، مع إعلان أبو ظبي، حتى وإن كان من يتظاهر في الشارع لم يقرأه أساساً. واليوم يقف لصوص بيزا من جهة والشعوب من جهة أخرى.
* هناك جولة ثانية من الربيع العربي انطلقت اليوم. في الجزائر والسودان قبل فترة وفي لبنان والعراق اليوم. كيف ينظر مؤلف كتاب “سوريا، نهاية حقوق الإنسان” إلى هذه الموجة التي تضرب وتهز أنظمة طائفية واستبدادية حكمت لفترات طويلة، وكيف تستحضر صديقك الأب باولو دالوليو في هذا الإطار؟
**هذا الربيع هو أجمل وأهم مما يمكن للخيال أن يتصوره. لم تنجح المجازر وحمام الدم في إخماد الأمل، ولم تزل لدى الشعوب شجاعة التعبير عن الفرح والغناء والترديد بأعلى صوت: “الشعب يريد إسقاط النظام”.
أعتقد أن ما يجري في إيران بعد إسقاط طائرة البوينغ دليل على وجود “ثقافة إنسانية” تنكرها الأنظمة الحاكمة ويصعب على الشعوب أن تنزعها من قلوبها. وإذا كانت نظرية الصدام بين الحضارات مبنية على الخوف من الآخر، ويمكن القبول بها في ظروف معينة ومحددة، إلا أنها في رأيي حصيلة الجهل المتبادل والسعي دائماً لإهمال الحديث عن المتنورين وتسليط الأضواء على المتطرفين دون غيرهم. لكن ما يحدث في العراق ولبنان وإيران يبرهن على أن الأمل أقوى من الخوف. إن العقل البشري يعتمد على آلية هامة تُدعى التعاطف مع الآخر، وليس على الكره أو الخوف وخير دليل على ذلك الحراك في الساحات، وليس من باب الصدفة ألا يُشار إليه إلا بكلمات قليلة. قد لا يكون استبداد “أنظمتنا” سياسياً كأنظمتكم لكنها تحتوي على استبداد ثقافي وإيديولوجي، فهي تخاف من صحوة شعوبنا، وعلينا في رأيها، أن نستغرق في غفوة الجهل. وهذا ما كان يعرفه الأب باولو تمام المعرفة.
لقد عاد الأب باولو إلى سوريا إذ لم يكن بوسعه ترك السوريين وحدهم. لم يكن بوسعه ذلك جسدياً وإذا كانت الحياة تستلزم الموت فإن رغبته في الحياة، أي البقاء إلى جانب السوريين، جعلته مستعداً للمخاطرة بحياته. إن علاقته بالسوريين عضوية وشخصية وصوفية. أعتقد أنه لو كان حياً وحراً فإنه سيقول: “أصدقائي الأعزاء من قلموني (أرض القلمون) اعذروني يجب عليّ أن أذهب اليوم إلى بغداد وطهران وبيروت، سأعود إليكم عندما سأنهي العمل السلمي وغير العنيف الذي بدأتموه أنتم عام 2011”.
وفي الحقيقة لم يكن له أن يترك قلمونه، فآلام القلمون هي آلامه سواء فكر فيها أو عبر عنها. فعندما سأله إمام بورصة عما يمنعه من اعتناق الإسلام أجابه “كنتُ مسلماً منذ طفولتي عندما كان أبي يرفع ذراعيه عالياً من قمم جبال منطقة أبروتزو، فينفتح قلبي مذهولاً بحقيقة وجود إله خالق واحد، لأطلب معه من الأنهار والوديان والكواكب أن تسبّح الله مع أبنائه”. وبمرور الزمن عمَّق الأب باولو حبه للإسلام ليطور ما سماه “الانتماء الإسلامي المسيحي المزدوج”.
* هناك غضب دائم من قبل النخب الثقافية والسياسية في بلداننا وخصوصاً سوريا دائماً ولبنان اليوم، من عدم اهتمام الإعلام الإيطالي (والغربي عموماً) بما يحصل فيها، وأحياناً الانحياز إلى وجهة نظر الأنظمة إما بشكل مباشر أو غير مباشر. وأنت كتبت حول هذا الموضوع. ما هي أسباب ذلك في رأيك؟
**إنه “صراع الحضارات”. لقد تم تشكيلنا على صعيد فردي أو جماعي في إطار صراع الحضارات لأنهم أرادوا إقناعنا بأن شعور عدم الثقة هو الشعور الصحيح. يقولون: “من المستحيل تغيير عقل المسلمين. الإسلام هكذا”.
نحن الصحافيون أيضاً عندما نشاهد ما يحصل في بيروت وبغداد ندرجه في قائمة الأحداث التي لن يكون لها وزن أو قيمة. وهذا ينطبق على اليمين المصاب بالرهاب من الإسلام أو المتبصر أو حتى المتشكك، وعلى اليسار الذي لا يزال يتستر بالأقنعة الإيديولوجية ويسعى لإقناع نفسه بوجود الخير المتمثل بموسكو دائماً ضد الشر المتجسد في واشنطن على الدوام.
وهذا الخير يمتد ليشمل حلفاء موسكو أيضاً، وهذا ما يفسر موقفهم المتشدد الضاري تجاه السيسي والخجول المتلطف مع الأسد لأنه من وجهة نظرهم هذه “رفيق نضال ومعارض” شأنه شأن حراس الثورة الإيرانية، وهذا ما أعرفه جيداً، فقد قرأت آلاف المرات أن جزءاً كبيراً من هؤلاء اليساريين يتذكر بألم صبرا وشاتيلا ويتناسى أن من عين إيلي حبيقة وزيراً هو الأسد.
وإذا وسعنا الحوار، فلماذا لا نتساءل عن حصار سراييفو؟ كان لليسار أن يتحلى بالشجاعة اللازمة ليفحص ضميره ويمكنني أن أقول ما أقوله الآن لأن فكرتي عن الحرب في البوسنة كانت مماثلة لفكرة اليسار، لقد خدعتني رواياتهم فرأيت المعارضة الصربية تجسيداً للمقاومة ضد حلف الناتو. ثم ولحسن حظي أرسلتني الصحيفة التي كانت أعمل فيها إلى سراييفو. وأنا مدين بالشكر على ذلك لمديري حتى نهاية حياتي. كان يجب عليّ الوصول إلى الجبهة الصربية في سراييفو. انطلقت من بلغراد ودخلت جمهورية صرب البوسنة ثم بدأت النزول إلى سراييفو من جبل إيجمان. هناك كانت ميليشيات تشيتنيك (الجيش اليوغسلافي في أرض الآباء) تحاصر المدينة.
أوقفونا مرات عدة ودعاني أحدهم إلى الاقتراب. كان يريد مني أن ألقي قنبلة على المدينة، فابتعدت عنه مسرعاً ثم تطلعت إلى نفسي مذعوراً في مرآة السيارة. ماذا فعلت، وماذا فهمت؟ كيف أمكنني أن أعيش طيلة الفترة الماضية مغمض العينين كمن لا يريد أن يرى الحقيقة فيغمض عينيه بنفسه؟
حاوره: عبد الله أمين الحلاق وسامي حداد