جورج صبرة
دولة بشار الأسد ومخالبها الناعمة
بدأت نشاطات وفعاليات ربيع دمشق مع مجيء بشار الأسد عام 2000 ببيان وقعه 99 مثقفاً سورياً للمطالبة بالحريات الديمقراطية، وانتهى بإغلاق المنتديات واعتقال قيادة إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي 2007 . شهدت تلك الفترة تحركات ثقافية وسياسية في محاولة لاستحضار حراك شعبي من أجل التغيير الديمقراطي في حياة البلاد . ولأسباب متعددة داخلية وخارجية حاولت السلطة التعامل معها بطريقة مختلفة .
شارك فيها التجمع الوطني الديمقراطي بأحزابه الخمسة ولجان إحياء المجتمع المدني التي ظهرت في تلك الفترة ، إلى جانب بعض الأحزاب الكردية وبعض الشخصيات الوطنية والفنانين الديمقراطيين الأحرار . وتشكلت لجنة للإشراف على هذه النشاطات وتنظيمها ، وكنت شخصياً أحد أعضاء تلك اللجنة .
زيارات واعتصامات
بدأت النشاطات بزيارات للمواقع الوطنية التاريخية مثل ميسلون وضريح الشهيد يوسف العظمة ، والقريّا في جبل العرب حيث ضريح سلطان باشا الأطرش قائد الثورة السورية الكبرى ضد الانتداب الفرنسي 1925 والعديد من المواقع المثيلة . وصلنا قرية الكَفر حيث جرت أول معركة من معارك الثورة ضد الفرنسيين ، وكنا بضع عشرات من الرجال والنساء ملتفين حول نصب الثورة وننشد الأناشيد الوطنية . وإذا بمجموعة من الشباب تقترب منا بهتافات سلطوية تحيي بشار الأسد وحزب البعث في محاولة للتشويش علينا وصرفنا من الموقع . وحالت العادات الاجتماعية والعلاقات الشخصية مع مضيفينا من أبناء الجبل ، دون التصادم الذي كان يسعى إليه هؤلاء بتعليمات من السلطة . أما في القريا فقد أقمنا احتفالنا بهدوء ، غير أن رجال الأمن المتابعين لنا منعوا أي حضور شعبي للمشاركة . وحصل الشيء نفسه في ميسلون . إذ كانت السلطة تجرب استخدام مخالبها الناعمة والملونة في مواجهة هذه النشاطات . وكنا مصرين على عدم الاستجابة للاستفزاز كي لا نعطيهم مبررات للتدخل المباشر والقمع . تكررت هذه الوقائع في الاعتصامات بساحات دمشق مثل ساحة عرنوس وساحة 29 أيار، حيث كان هم السلطة تفريق التجمع بأسرع ما يمكن دون عنف استمراراً لسياسة القبضة الناعمة. ولما لم تجد نفعاً لها هذه السياسة، انتقلت إلى شكل آخر للمواجهة مع الناس .
قررنا إجراء اعتصام أمام قصر العدل في دمشق للمطالبة بالحريات الديمقراطية وإطلاق سراح السجناء السياسيين . فتجمعنا هناك حاملين لافتات . ومعظم الحضور من المحامين والسياسيين المعمرين والمعروفين . مر بعض الشباب العابر وسألني أحدهم عن سبب هذا التجمع وما يجري . فقلت هو نضال سياسي من أجل الحرية . فقال الشاب بصوت مستنكر ومذعور : حرية وسياسة ؟ ! الله يفتح عليكم . وانتقل بسرعة إلى الجهة الأخرى من الشارع بعيداً عن موقع الاعتصام . كانت تجربة جديدة على الأرض السورية مفاجئة وصادمة وتثير الخوف . وما هي إلا دقاق حتى بدأنا نسمع صوت هتافات وصخب قادم من جهة ساحة الحجاز . وإذا بمجموعة كبيرة من الشباب المنظم على شكل مظاهرة ( منظمة اتحاد شبيبة الثورة ) يحملون الأعلام بعصي مرفوعة . يهتفون ضد الخونة والعملاء ، ويتوجهون مباشرة نحونا . وما أن وصلوا إلى خط التماس معنا حتى نزعوا الأعلام وجردوا العصي التي بدأت تنهال علينا مع الشتائم المقذعة ، ونحن واقفون على الرصيف . كانت أجهزة الأمن الحاضرة بكثافة واقفة تتفرج ، وكأنها غير معنية بما يجري .أصيب العديد من الشباب المشاركين بالاعتصام ، وحمل بعضهم بسيارات الأمن بعيداً عن المكان ، فعلا هتافنا وراء المحامي المرحوم نذير مصطفى ” يا حرية وينك وينك . . شوفي العسكر بيني وبينك ” . كان الهدف إنهاء الاعتصام بوسائط جديدة ، ووضع الناس بمواجهة بعضها . وفي ذلك إشارة إلى قدرة الدولة على استخدام أساليب أخرى للقمع ، واستعراض خيارها الممكن بوضع الشعب بمواجهة نفسه .
أحداث القامشلي 2004
في آذار من ذلك العام وخلال أحداث القامشلي ، شعرت قيادة التجمع الوطني الديمقراطي بخطورة ما يجري على الوضع الوطني في البلاد. خاصة وأن الاحتلال الأمريكي للعراق ينذر بمخاطر التمدد وإحداث تغييرات دراماتيكية في المنطقة . فطلبنا لقاء مع أحد المسؤولين، لنشرح مخاوفنا ونعلن اعتراضنا على الحل الأمني المعتمد ونبين خطورته ، ولنعرض جهودنا كطرف سياسي للمساعدة في اجتراح الحلول المناسبة . ذهبنا بوفد مشترك حوالي عشرة أشخاص من السياسيين والمثقفين المعنيين بالأمر، ليس بيننا كردي واحد، للقاء مع مدير مكتب الأمن القومي اللواء محمد سعيد بخيتان .
قال الرجل : أرى أنكم قلقون جداً ، وتحمِّلون الأمر أكثر مما يحتمل .
كنت قريباً منه فقلت : يا سيادة اللواء ، هل يحق لأحد أن لا يقلق ، عندما يصبح دم السوريين في الشوارع ؟
أجابني ضاحكاً : لا تخافوا ولا تقلقوا ، غداً أسلِّح العشائر ، وأُعيد هؤلاء الكلاب إلى جحورهم .
وكانت مفاجأة وصادمة أن نسمع من فم السلطة بوضوح عار ، أنه لا مانع لديها من إشعال حرب أهلية في البلاد من أجل فرض سيطرتها وحلولها الأمنيُة على الشعب . مما يشي بأن علاقتها مع مكونات الشعب هي علاقة عداوة، يجري التعامل معها بالرصاص. بعدها دار الحديث مع الرجل وتشعب بجو متوتر ، وأثار حفيظة الحضور بحجم استهانته بالشعب واعتماده خيار العنف دون غيره ، مما استجر ردوداً قاسية من بعض أعضاء الوفد . فاستفز الرجل وأراد اعتقال الكاتب جاد الكريم الجباعي . في اليوم التالي سافر وفد من المعارضة إلى القامشلي لإعلان التضامن مع أهلنا الكرد ، وتحذيرهم مما يمكن أن يقدم عليه النظام .
نماذج من التحقيق
في تلك الفترة صرنا نشارك إخوتنا الكرد احتفالاتهم السنوية في إحياء النيروز كممثلين لأحزاب المعارضة . وبمناسبة ذكرى الإحصاء الاستثنائي الذي جرى في محافظة الحسكة 1962 وحرم بموجبه الآلاف من المواطنين الكرد من الجنسية السورية ، دعت الأحزاب الكردية لمظاهرة كبرى واعتصام أمام مقر مجلس الوزراء في دمشق . وبينما كنت أعد نفسي للنزول من أجل المشاركة ، جاءني اتصال هاتفي من العميد تركي علم الدين رئيس قسم التحقيق في فرع الأمن الداخلي .
قال : أنت نازل على المظاهرة ، أليس كذلك ؟
قلت : نعم بالتأكيد .
قال : أنصحك بعدم النزول ، فالأجواء معكرة ولا تسمح .
قلت : والله أنا نازل . لأني أعتقد أن هذه القضية محقة .
قال : اصطفل أنا نبهتك ، وما حدا بيعرف شو بدو يصير . وانتهت المخابرة .
وفي دمشق كانت جموع المتظاهرين ممتدة من أمام مجلس الوزراء وحتى ساحة السبع بحرات . كنا مع المعتصمين في الساحة مجموعة صغيرة لا يتجاوز عددها أصابع اليدين من غير الكرد . وهنا تركت عناصر الأمن مئات المعتصمين الكرد واتجهوا نحونا لإخراجنا من الاعتصام بالقوة ، وتعرض بعضنا لجراح طفيفة نتيجة الاشتباك بالأيدي . فلم تكن السلطة تطيق مشاركة غير الكرد في تحركات الأكراد واحتفالاتهم ، تنفيذاً لسياسة فرق تسد ، والاستفراد والعزل والتفتيت الاجتماعي، وإمعاناً في ممارسة التمييز بين مكونات الشعب .
قال المحقق : لماذا تخرج مع الأكراد في مظاهراتهم ، ألا تعلم أنهم يريدون تقسيم البلاد ؟
قلت : أخرج معهم لكي أمنعهم من تقسيمها ، فقد يفعلون ذلك بغيابي . فابتسمنا ثم أضفت ، يا سيادة اللواء ليس للدولة أن تطلب من الشعب الولاء وأداء واجباته نحوها ، دون أن تعطيه حقوقه . فحقوق المواطن أولاً ، وهي علة وجود الدولة وجوهره . وللمواطنين الكرد حقوق مهدورة .
قال : طيب شو قصتكم مع القانون 49 ( القانون الذي يقضي بإعدام كل من ينتمي للإخوان المسلمين ) قرعتم رؤوسنا بالمطالبة بإلغائه ، فهل يطالكم ؟ وأنت شيوعي ومسيحي !
قلت : يا سيادة اللواء من أجل أن نكون قادرين على الوقوف بوجه القانون 59 مثلاً إذا صدر مستقبلاً ، ويقضي بإعدام من ينتمي لحزب البعث لا سمح الله . ثم أضفت: أنا لا أريد الاستفزاز، لكن انظر إلى العراق اليوم ، يمكن أن يعترف العراقي بأنه تاجر مخدرات ، ولا يعترف بأنه بعثي . بعد صدور قانون اجتثاث البعث وتبعاته . وساد الصمت ثم انتهى التحقيق .
زارني في أحد الأيام بعض السياسيين والصحفيين للاطمئنان بعد مواجهات مع الأمن . كان بينهم رياض الترك – خليل معتوق – حكم البابا – عمار مصارع . ولأن بيتي تحت المراقبة الدائمة ، فسرعان ما حضرت قوات الأمن السياسي برئاسة العقيد محي الدين هرموش وحاصرت المنزل . طلب مني الرجل فض الاجتماع القائم داخل المنزل . نفيت وجود أي اجتماع ، ودعوته للدخول وفضه بنفسه . وبعد اتصال مع قيادته دخل . فاندفع خلفه رجل من مرافقته يهم بالدخول فمنعته ، وأغلقت بالباب بوجهه . وهنا اندفع نحوي داخل البيت أحد أولادي وكان طالباً بالجامعة وقال لي ملهوفاً ومذعوراً ، وكأنني ارتكبت غلطة العمر : ماذا فعلت يا أبي ، تغلق الباب بوجه المساعد سلمان . . ألا تعرف من هذا الرجل . . هذا الذي يحكم المدينة ويخشاه كل الناس . عندما يراه الناس في الشارع يدخلون إلى بيوتهم خوفاً منه ، فماذا فعلت ! !
كان العقيد يجالس ضيوفي في حديقة المنزل بلطف واحترام ، ويشرب القهوة معهم . بينما كان ابني مرعوباً وخائفاً من المساعد سلمان، وما يمكن أن يفعله . دولة يقرر فيها المساعدون ،( وبعضهم بالكاد يقرأ ويكتب ) ويتحكمون بمصير البلاد والعباد ، لدرجة تثير الذعر عند الناس ، ليس لأنهم يشبهون الدولة ويمثلونها ، بل لأنهم الدولة . فالدولة الأمنية هي دولة المساعدين .
في الثورة
ظهر الجمعة 18 آذار 2011 وصلتني مكالمة هاتفية ، وكان على الطرف الآخر الصديق أيمن الأسود . جاءني الصوت فرحاً مهللاً : يا أبا شادي خرجنا الآن في مظاهرة من الجامع العمري في درعا ، اسمع الهتافات . لم تمض أكثر من نصف ساعة حتى جاءني الصوت ثانية لكن بهلع صارخ : اسمع يا أبا شادي صوت الرصاص ، إنهم يطلقون النار علينا ، وسقط الجرحى والشهداء . ففي الثورة لم يحتمل النظام صوت الناس الأحرار يطالبون بالحرية لهم ولشعبهم أكثر من نصف ساعة ولا جواب عنده غير الرصاص. فالدولة التي بناها ويديرها منذ أكثر من أربعة عقود لا تعرف مع الشعب غير لغة العنف والدم ، ولا تتقن غيرها .
في صيف 2011 وبعد تصاعد نشاطات الثورة التي شملت البلاد من أقصاها إلى أقصاها ، حاول النظام أو بعض أطرافه استيعاب ما يجري بإجراءات وحركات احتيالية . فاستقبل القصر الجمهوري العديد من الوفود الشعبية ، وسمح بلقاءات ومؤتمرات علنية لامتصاص الغضب الشعبي المستعر ، شارك فيها بعض المثقفين والسياسيين ، وعارضتها أحزاب المعارضة . كان أكثرها أهمية وجدية ” اللقاء التشاوري ” الذي عقد في مجمع صحارى بإدارة وإشراف فاروق الشرع نائب رئيس الجمهورية .
دعاني لحضور اللقاء الدكتور منير الحمش نائب رئيس اللجنة التحضيرية . وبعد حوار طويل معه عن أهمية التغيير والإصلاح وراهنيته ، وضرورة الإقرار بأن مطالب الشعب محقة ، وقد آن الأوان لتلبيتها وإجراء التغيير اللازم . سألته : هل هناك ضمانات بتنفيذ القرارات والتوصيات التي يخلص إليها المؤتمرون ؟ كان الرجل صادقاً ونزيهاً بما يكفي ليقول الحقيقة ، عندما أجابني : لا . . ليس هناك أية ضمانات ، فأنت تعرف جيداً من يدير البلد وكيف تدار. وتلك إشارة واضحة للدولة الأمنية. كان ذلك كافياً للاعتذار وعدم المشاركة .
تعرضت للاعتقال خلال الثورة مرتين ، الأولى في نيسان من قبل فرع الأمن الداخلي . والثانية في تموز أثناء اجتياح قطنا ، وكنت بضيافة فرع المنطقة وفرع التحقيق العسكري . وفي كل الأمكنة كنت أواجه بالسؤال الخبيث ، الذي يضمر غير ما يظهر : لماذا جورج صبرة عندي ، وما يفعل هنا ؟ فمكانه ليس في السجن . وكنت أجيب : وأنا أيضاً أسأل نفس السؤال . لكن رسالة التحقيق كانت واضحة أن مكاني كمسيحي ( كما يعتقدون ويريدون ) ليس هنا مع الآخرين ، الذين يخرجون من المساجد هاتفين للحرية وصاخبين ضد السلطة . فموقعي محفوظ ومضمون معهم في مكان مختلف ، حيث يجب أن يكون المسيحيون وجميع الأقليات ، أي وراء النظام ، لأنه حامي الأقليات . فشكراً للثورة التي عرت المستور ، وأظهرت أن للطائفية قدمان للسير والتجول، ويدان لحمل السلاح وإطلاق النار. وكشفت الدولة عن وجهها الحقيقي كدولة أمنية متوحشة .
في محكمة بداية الجزاء بقطنا وبحضور المحامي خليل معتوق ، قالت لي القاضية وهي تقرأ من إضبارة أمامها : أنت متهم بتأسيس إمارة إسلامية في قطنا ، فماذا تقول ؟
قلت: ليش حضرة القاضية هل انتهى المسلمون جميعهم، ولم يبق من يؤسس لهم الإمارة الإسلامية، حتى يأتي مسيحي ليفعل ذلك؟
فقالت مبتسمة : لا بد أن أسألك ، فهو سؤال من إضبارة التحقيق .
قلت : لتكن التهم واقعية ومنطقية ، وتليق بالقضاء ومسؤوليته . كانت قاضية تستحق موقعها فأخلت سبيلي .
كانت الطائفية نهجاً وسياسة وأسلوب عمل ومن الأدوات المعتمدة من قبل النظام لتفتيت المجتمع وتبدبد حضوره مقابل السلطة . والعنف هو الخيار الوحيد لتطويع الناس وإرهابهم ، لتصبح البلاد بالفعل جمهورية للخوف والصمت . ولم تكن هذه السياسة بعيدة عن المخططات الخارجية في المنطقة ( إيرانياً وإسرائيلياً ) بل بالتناغم معها. حتى جاءت الثورة لتغير الحال ، فكسرت صمت السوريين، وحطمت أسوار خوفهم إلى الأبد .