تلاشت تماماً التوقعات حول تغييرٍ ما يحدث في سوريا؛ مرت أزمة رامي مخلوف كشجار عائلي بقيت تأثيراته في إطار تدوير الثروة ضمن الدائرة الضيقة، واستقرت ارتدادات قانون قيصر كما هو الحال المعتاد للعقوبات الاقتصادية ضد هذا النوع من الأنظمة. حليفا بشار لم يبارحا أيضاً السياسة المعروفة عنهما لجهة عدم الاعتراف بتأثير العقوبات، وما لم يكن مؤثراً على سياسة كل منهما في بلده لن يؤثر عندما يتأذى من العقوبات شعب آخر، على رغم اختلاف ما هو مطلوب أمريكياً من موسكو وطهران.
إذاً، بخلاف الآمال التي انتعشت قبل مدة، ها هي الساحة السورية مفتوحة أكثر من قبل على احتمالات التصعيد، وإذا لم نشهد حتى الآن معارك كبرى فإن احتمال نشوبها قائم، والرسائل المتفجرة المتبادلة قد لا تغني عنها. مثلاً، بلا ضوضاء تتبادل موسكو وأنقرة توجيه تلك الرسائل التي لم تعد مقتصرة على جبهة إدلب، بل تعدّتها إلى مناطق تعتبر مستقرة للنفوذ التركي. الخلاف بين البلدين في ليبيا قد يلقي بثقله على تفاهمهما في سوريا، وإن كان الصراع هناك مفتوحاً على الأطماع بينما تستوجب علاقة “الجوار” في سوريا ضبطه.
ثمة إجماع على أن القضية السورية خرجت من أيدي أصحابها الأصليين، وهذا يستتبع الإقرار بأن سوريا أصبحت ساحة لصراع دولي وإقليمي، بأدوات سورية أحياناً وبحضور الأصلاء أحياناً أخرى. بناء على ذلك، الحل في سوريا لن يأتي إلا عندما تكون الأطراف الدولية والإقليمية جاهزة له، ولم تعد بحاجة إلى ساحة “تتفاوض” فيها باستخدام العنف، وبتمرير الرسائل المحدودة أو غير المباشرة التي لا تكلفها خوض حرب بين دولتين بالمعنى الكلاسيكي.
ما يحدث على مقلب أية جهة “أداة” سورية غير مهم إلا بقدر ما يكون مؤشراً جاداً وواضحاً على تغير لدى الجهة الراعية، وعلى ذلك قد نخطئ إذ نحمّل بعض التفاصيل ما لا يحتمله من تأويلات. على سبيل المثال، هناك فارق بين سعي موسكو إلى هيمنة أوسع على التركيبة الأسدية وبين إعادة تأهيل التركيبة على نحو مغاير، أو تجهيزاً لتسوية مقبلة. لقد شاهدنا نوبات غضب روسية من الأسد وحلقته الضيقة، لكن سرعان ما تم امتصاصها من دون أثر على تلك التركيبة، ما يستدعي فهم الغضب ضمن حدود متدنية من اقتسام النفوذ والمنافع لا ضمن مخطط روسي لما بعد الأسد. كذلك هو تبادل الأدوار بين موسكو وطهران في سوريا، حيث يسير التنافس والتحالف على خطين متوازيين ومتوازنين، وبما يضمن متانة تحالف البلدين حتى الآن في العديد من المجالات، ما يتعلق منها بالعلاقات الاقتصادية المتينة أو بالتنسيق إزاء السياسات الأمريكية والغربية عموماً.
ما هو ظاهر حتى الآن يُبرز القوى التي تستخدم الساحة السورية لتحقيق أهداف ممكنة، وقوى أخرى التي تعلن عن أجندات يستحيل تحقيقها وفق المعطيات الحالية. الأولى منهما تترك هامشاً من المناورة والسياسة، حتى إذا استخدمت القوة العسكرية العمياء المفرطة أو الذكية، أما الثانية فستكون التسوية على حسابها ما يدفعها إلى التمسك بالوضع الحالي والتصدي لأي تغيير محتمل.
موسكو مثلاً طرحت هدف الحفاظ على السيادة وعدم قبولها تغيير الأنظمة بالقوة، مع التصريح بين الوقت والآخر بأن ذلك الهدف لا يتضمن التمسك ببقاء بشار الأسد. بالطبع لم تكن موسكو مخلصة لهدفها المعلن، واستهلت حربها في سوريا بالإجهاز على كان يُسمى الفصائل المعتدلة قبل نظيرتها المتطرفة، ولم تميز على طول الخط بين سيادة سورية يُفترض أن تُمثل بمؤسسات لا بعصابة حاكمة، لكن مع ذلك تتكفل أهدافها المعلنة بالتفاوض حول تسوية لا يرفض فيها لاعبون آخرون تلك الأهداف، ويقبلون حتى ما تنطوي عليه من نفوذ روسي مستقبلي.
أنقرة استقرت أخيراً على مطلب يتيم يتعلق بهواجسها الكردية وعدم تكرار النموذج العراقي، هذا لا يلغي مطامع أخرى إلا أنه بمثابة الهدف الذي لا يمكن التنازل عنه، وما دونه قابل للتفاوض. بالطبع هناك قضايا أخرى مثل إعادة اللاجئين الذين تتحمل العبء الأكبر لاستضافتهم، وعودتهم تقتضي تغييراً يسمح بها كعودة طوعية آمنة، أما الحديث عن مطامع تركية أضخم، ومنها ضم أجزاء من سوريا، ففيه الكثير من عدم الواقعية وعدم الانتباه إلى التنازلات التركية على مسار أستانة وما تعنيه من استعداد لتنازلات تخص التسوية النهائية طالما أنها لا تمس المخاوف التركية المُتفق عليها داخلياً إزاء المسألة الكردية.
واشنطن وتل أبيب تتقاطعان عند هدف إخراج الإيرانيين من سوريا، ولا تطرح تل أبيب اشتراطات أخرى على بقاء بشار وطبيعة حكمه، بينما لا تطالب واشنطن بأكثر من تطبيق ملطّف لقرار مجلس الأمن 2254. المعركة التي يخوضها الطرفان ضد الوجود الإيراني في سوريا، وصولاً إلى شبهة استهداف منشآت في العمق الإيراني، تجد في الساحة السورية ملعباً مفضلاً، تضرب فيه إسرائيل من دون أن تتحمل طهران حرج الرد. البلدان لا يتكلفان ثمناً في الساحة السورية يدفعهما إلى استعجال الحسم سلماً أو حرباً، فالطيران الإسرائيلي يحظى بحرية القصف من الأجواء السورية واللبنانية، والوجود العسكري الأمريكي في شرق سوريا قليل الكلفة وافر المردود في الوضع الراهن وفي إطار أية تسوية محتملة. المؤشرات الواردة من واشنطن تفيد بتفضيل التوصل إلى تسوية والانسحاب على أساسها، لأن بقاء مستداماً في سوريا قد يؤدي إلى التقسيم غير المطروح بسبب تداعياته على مجمل المنطقة.
داخلياً، لن يأتي أي حل إلا على حساب سلطة بشار ولو لم يتضمن تنحيته. هذا وحده كفيل بأن يجعل من المتضرر في طليعة المناوئين لأي حل، ويجعل منه منضوياً بشدة في النهج الإيراني، يجمع الطرفين عدم امتلاكهما أهداف سياسية “مرنة” وطموحهما المشترك إلى عودة الوضع إلى ما كان عليه من قبل. إن كلفة اللاحل بالنسبة لطهران وبشار تهون أمام أفضل الحلول المطروحة عليهما، ما يضعهما تلقائياً على الضد من أي اقتراب منه. يجدر بنا تذكّر أن الجانبين لم يطرحا خلال السنوات الماضية أي هدف سياسي، وشعارهما المرفوع هو النصر بمعنى امتناع التغيير، لم يطرحا أي برنامج سياسي للمستقبل لا عندما كان يتلقيان الخسارات ولا عندما كانا يحققان انتصارات.
من المؤكد طبعاً أن التنظيمات الجهادية سينتهي وجودها مع أية تسوية، وبرامجها جميعاً أعلى أصلاً من إمكانياتها ومن أن يُسمح لها بالمشاركة في صياغة المستقبل، وهذه التنظيمات لن ترى في الخسارة سوى فقداناً لساحة جهاد يجب تعويضها بأخرى، بينما الفصائل وكذلك المعارضة الواقعتين تحت النفوذ التركي ليستا في وضع من يملك رؤية سياسية وطنية أو مستقلة. ولا تجد وحدات الحماية الكردية نفسها في وضع أفضل مع عدم الثقة إزاء الراعي الأمريكي، وعدم الثقة أيضاً إزاء موسكو وبشار، مع التخوف الحالي والمستقبلي من المصالح التركية التي أثبتت أولويتها في عفرين وشرق الفرات. من المتوقع أن تكون سلطات الأمر الواقع جميعاً متخوفة من حل سيضحي بها أو بطموحاتها، وقلقة في الوقت نفسه من هشاشة الوضع الحالي.
لن يكون الحل سورياً كما تروّج الرطانة الدبلوماسية للدول المنخرطة في الصراع، والأهم أنه لن يأتي ما لم تكن هذه القوى وصلت إلى تفاهمات نهائية تخص صراعاتها البينية قبل صراعها في سوريا. وفق توزع اللاعبين وأولوياتهم، لم تنتفِ بعد الحاجة إلى الساحة السورية، ولا بديل عنها حتى مع وجود ساحات مثل اليمن وليبيا. لذا ربما علينا، قبل التورط كل مرة في الحديث عن اقتراب الحل، النظر جيداً إلى ما إذا كان أصحاب الحل الفعليون جاهزين له.