جذور الأزمة الراهنة
اختلفت العلاقات السعودية – الإيرانية حاليًا عن النمط الذي كان سائدًا منذ عقود؛ فقد طرأت عليها تغيّرات جذرية. ففي عهد الشاه، عرفت العلاقات بين البلدين حالةً من الاستقرار والتعاون، نتجت أساساً من انتساب الطرفين إلى المعسكر الدولي نفسه الذي كانت تقوده الولايات المتحدة، في فترة الحرب الباردة، وشعورهما المشترك بتهديد الاتحاد السوفياتي وحلفائه الإقليميين. كانت تلك الحالة سائدةً، على الرغم من الأطماع الإيرانية في السواحل الشرقية للخليج العربي، وخصوصاً بعد إعلان بريطانيا رغبتها في الانسحاب من المنطقة، في أواخر ستينيات القرن الماضي، فسارعت إيران إلى احتلال جزر الإمارات الثلاث عام 1971، كما حاولت ضمّ البحرين، لكنها لم تفلح في مسعاها.
وقد توترت تلك العلاقات بشدة، بعد إطاحة نظام الشاه، وإعلان الجمهورية الإسلامية في إيران عام 1979؛ إذ خرجت إيران من استقطابات الحرب الباردة، وشرعت في محاولة تصدير ثورتها إلى الخارج، وإطاحة الأنظمة المحافظة في منطقة الخليج، واتهمتها بالتبعية للغرب، وخصوصًا الولايات المتحدة. ولذلك، كان متوقعاً وقوف السعودية إلى جانب العراق، ودعمها له في حرب السنوات الثماني مع إيران (1980-1988). وعقب الغزو العراقي للكويت، مطلع تسعينيات القرن الفائت، سرى بعض الدفء في العلاقات السعودية – الإيرانية، بما في ذلك التبادل الدبلوماسي بينهما، كما ساهم وصول الإصلاحي، محمد خاتمي، إلى منصب الرئاسة في إيران ومحاولته الانفتاح على جيرانه والعالم، في إحداث تحسّنٍ أكبر، إلا أنّ العلاقات سرعان ما عادت إلى التوتر بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003. وازدادت سوءاً بعد وصول محمود أحمدي نجاد إلى الحكم في صيف 2005.
قاد أحمدي نجاد الذي جاء ممثلاً لتيار أصولي متداخلٍ مع نزعةٍ قوميةٍ طاغية، تحولاً في سياسات إيران الإقليمية؛ مستفيدًا من التغيّر الإستراتيجي الكبير الذي طرأ في المنطقة، بفعل التدخل العسكري الأميركي وضرب العراق وأفغانستان، فقد أخذ يروِّج ليس تصدير الثورة الإسلامية إلى دول الجوار فحسب، كما كان عليه الحال في عهد آية الله الخميني، وإنما أيضًا لإنشاء مشروعٍ إيراني يمتد إلى البحر الأبيض المتوسط مستخدماً أدوات تصدير الثورة، مثل تسييس الطائفية ودعم ميليشيات وأحزاب طائفية في منطقةٍ لا تعدم القابلية لها.
استغل النظام الإيراني تهرّب النظام الرسمي العربي من تحمّل مسؤولية القضية الفلسطينية، والتنصّل منها عبر مبادرات السلام وغيرها، لاستخدام هذه القضية الوطنية، في محاولة الحصول على شرعية شعبية عربية. كما استغل عدم حلّ مسألة المواطنة أساساً لعلاقة الفرد بالدولة في الأقطار العربية، لتحويل مشاعر الغبن باتجاه طائفي.
وبالتوازي مع إطلاق عملية بناء قوس نفوذٍ إيراني، يمتدّ شمال شبه الجزيرة العربية، ويشمل كامل الهلال الخصيب، أعلن أحمدي نجاد، فور وصوله إلى السلطة، استئناف تخصيب اليورانيوم الذي كان خاتمي قد أوقفه في عام 2003، بعد أن كشفت المعارضة الإيرانية عن وجود برنامج نووي سرّي عام 2002؛ وهو ما أضاف عامل خلافٍ آخر مع السعودية.
“الربيع العربي” وورقة العرب الشيعة
قبل اندلاع ثورات “الربيع العربي” عام 2011، مثّل العراق نقطة التوتر الأبرز في العلاقات السعودية – الإيرانية؛ إذ ظلّت السعودية تتهم إيران بمحاولات بسط نفوذها على العراق، مستفيدةً من تدمير الولايات المتحدة مؤسسات الدولة العراقية، وفي مقدمتها الجيش، وتسليم السلطة لحلفاء طهران من ميليشيات وأحزاب، عِلماً أنَّ السعودية ودول الخليج العربية لم تقم بأي عمل لمنع الولايات المتحدة من العدوان غير المبرر على العراق المحاصر واحتلاله، والذي لم يكن يشكل أي تهديد.
وقد أوجد اندلاع ثورات “الربيع العربي” أسبابًا أخرى جديدة للخلاف، ففيما اتخذت السعودية موقفاً “مبدئيًا” في معارضة الثورات العربية، تفاوتت مواقف طهران منها بحسب مصالحها، فبعد أن أيدت إيران ثورات تونس ومصر (بوصفها “تعبيراً عن صحوة إسلامية” حسب خامنئي)، وساندت الاحتجاجات الشعبية التي اندلعت في البحرين، وعدّتها أيضًا امتدادًا للصحوة الإسلامية التي بدأت بالثورة الإيرانية عام 1979، تحوّلت الثورة العربية ضد الاستبداد والفساد (في نظرها) إلى “مؤامرة” أميركية إسرائيلية، عندما وصلت إلى سورية، فقد أصبحت المسألة قضية استهدافٍ للمقاومة ومحورها. وما لبث هذا التقييم أن أُسقط على الثورات كلها بأثر رجعي. أما في اليمن، فلم تعترف إيران بوجود ثورة هناك، إلا عندما استولى الحوثيون على السلطة، وحاولوا الاستئثار بحكم البلد في النصف الأخير من عام 2014.
كانت مواقف الطرفين مما يجري في المنطقة محدّدة باعتبارات جيوسياسية واضحة، لا علاقة مباشرة لها بقضايا الشعوب الثائرة ومطالبها. وهي مواقف متناقضة في الجوهر، بين السعودية التي تسعى إلى استدامة الوضع القائم في المنطقة وإيران التي لا تفوّت فرصةً لتغييره لمصلحتها، بوصفها دولةً غير مقتنعة بتركيبة النظام الإقليمي وتوجهات أقطابه. وبعد محاولات فاشلة عديدة بدأت منذ انتصار ثورتها عام 1979، توفرت لإيران، بعد الحرب الأميركية على العراق، فرصةً أفضل لتحقيق طموحاتها في بسط سيطرة كاملة على المشرق العربي، وصولًا إلى المتوسط.
وكانت إيران قد استأنفت، بعد الثورة، سياسات بناء ركائز نفوذ لها في مجتمعات الدول المجاورة، عبر محاولات التواصل مع مكوناتها الشيعية، أو ادّعاء تمثيل هذه المكونات وقضاياها، عندما لا تملك تواصلاً مباشراً معها. قام في إيران بعد الثورة نظام ديني مذهبي، يحوّل الدولة إلى أداة في نشره، وفي تسييس الانتماء الطائفي للشيعة عبر العالم، بربطهم بدولةٍ ليست دولتهم. وأخذت إيران على عاتقها مهمة فرض نفسها ممثلاً للشيعة حول العالم (لا يشبهها في ذلك إلا إسرائيل التي تفرض نفسها ممثلًا لليهود في أنحاء العالم كافة، مع الفارق بين دولة إقليمية تنتمي للمنطقة حضارياً وتاريخياً وبين دولة استعمارية استيطانية). ومع ذلك، لم يدّع الشيعة تاريخياً يوماً أنهم شعب أو قومية، وقلما تبلوروا حتى كطوائف منظّمة داخل مجتمعاتهم التي انتموا إليها. أمّا ولاية الفقيه، وهي الأداة الدينية لفرض تبعيةٍ كهذه، فكانت دائماً موقف أقلية بين علماء الشيعة، حتى في إيران نفسها، فيما لم يسمع بها أحدٌ في البلدان العربية، قبل أن يتبناها حزب الله في لبنان.
وبدأت عملية بناء قوى وأحزاب وميليشيات شكّلت أدواتٍ لإيران، وأذرعاً لها، تستخدمها للتأثير في مجتمعات هذه الدول، وفي علاقات القوة القائمة في الإقليم أيضاً؛ فجرى إنشاء حزب الله في لبنان من الحرس الثوري الإيراني في مطلع الثمانينات، كما ظهر المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، وجناحه العسكري “فيلق بدر” الذي أسسته إيران عام 1982، وأدى دور رأس الحربة للغزو الأميركي للعراق عام 2003، قبل أن يتمكّن، مع مليشيات وأحزاب أخرى حليفة لطهران من الإمساك بزمام الدولة العراقية، بعد الانسحاب الأميركي عام 2011. وكانت آخر محاولات إيران، في هذا السياق، دعم ميليشيا الحوثي في اليمن، ودفعها للعمل “ثلثاً معطلاً”، قبل أن “تجمح” باتجاه السيطرة على البلاد مطلع عام 2015، وكذلك الاختراق المتواصل للحشد الشعبي الذي دعت إليه المرجعية الشيعية في العراق، لكنها لم تعد تملك السيطرة عليه.
الرد السعودي والموقف الأميركي
بعد سقوط صنعاء بيد الحوثيين في سبتمبر/أيلول 2014، بدا أنّ إيران استكملت حصار السعودية؛ ففي الشمال غدت إيران تفاخر بتحكّمها بمفاصل القرار في دمشق وبغداد وبيروت، كما أضحت تتحكّم بصنعاء في الجنوب، وتستمر في محاولات زعزعة استقرار بقية دول الخليج (من البحرين إلى الكويت). وكان ذلك يحدث كله في وقتٍ بدأت فيه الولايات المتحدة تتحدث، صراحةً، عن ضرورة أن تبدأ دول الخليج العربية، وفي مقدمتها السعودية، من الآن فصاعدًا، بتحمّل القسط الأكبر من أعباء الدفاع عن أمنها ومصالحها؛ لأنّ الحليف الأميركي لم يعد يريد القيام بذلك، إلا إذا تعرّضت مصالحه المباشرة للخطر. ونتيجة ذلك، قامت السعودية بتدخل عسكري في اليمن، والذي يعد الأكبر في تاريخها، بعد أن سيطر الحوثيون على العاصمة صنعاء، وأصبحت إيران تهددها من خاصرتها الجنوبية.
من جهة أخرى، أصبح واضحاً، بعد توقيع الاتفاق النووي الإيراني، أنّ الولايات المتحدة تعمل على أساس إنشاء توازنٍ في القوى بين السعودية وإيران، ليصبح بديلاً من ذلك الذي كان سائدًا بين إيران والعراق، قبل أن تحطّمه إدارة الرئيس السابق، جورج بوش الابن عام 2003. لكنّ الإدارة الأميركية خطت خطوةً أخرى باتجاه تبنّي وجهة النظر الإيرانية؛ ففي حين تقوم كل موازين القوى الإقليمية في العالم في إطار ترتيبات أمن إقليمي جماعي، عماده الدولة الوطنية، وضعت الإدارة الأميركية هذا التوازن في منطقة الخليج في سياق صراعٍ طائفي بين “معسكرٍ سني” تقوده السعودية و”معسكرٍ شيعي” تقوده إيران، وهو ما أشار إليه الرئيس باراك أوباما في خطابه الأخير عن حالة الاتحاد، عندما تحدّث عن صراعٍ داخل الإسلام، عمره ألف سنة، وذلك في سياق محاولته التهرّب من اتخاذ موقفٍ في سورية وغيرها. تبنى أوباما سرديةً طائفيةً للصراعات السياسية في المنطقة، عجز عن تسويقها عتاة الطائفيين من الأطراف كافة في منطقتنا.
وقد كشف إعدام السعودية 47 شخصاً متهمين بـ “الإرهاب”، في 2 يناير/كانون ثاني 2016، بينهم رجل الدين الشيعي السعودي نمر النمر، حجم التوتر الكامن في العلاقات السعودية – الأميركية، وخصوصاً في ما يتعلق بالمقاربة الأميركية الجديدة نحو إيران. فالسعودية مضت في تطبيق أحكام الإعدام، متجاهلة تحذيرات أميركية سابقة بأنّ إعدام النمر قد يؤدي إلى تصعيد التوتر الطائفي في المنطقة، بشكل قد يعقّد كثيراً من الملفات الملتهبة في الشرق الأوسط، بما في ذلك الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش”، وفرص إيجاد حلٍ سياسي في سورية واليمن. وفي حين لم يهتمّ كثيرون بإعدام 47 شخصًا دفعةً واحدةً، ولا حتى بأسمائهم، تصرّفت إيران كأنها ممثل رجل الدين الشيعي السعودي الذي نُفِّذ بحقه حكم الإعدام.
زادت هذه المقاربة الأميركية الجديدة للعلاقة مع إيران مخاوف السعودية، وعمّقت شكوكها في نيات الولايات المتحدة؛ ما دفعها إلى مزيدٍ من التصعيد مع إيران؛ فقرّرت قطع العلاقات معها، بعد أن هاجم متظاهرون السفارة السعودية في طهران والقنصلية في مشهد، وأضرموا النار فيهما. ويبدو واضحاً مقدار الحرج والإرباك الذي تسبّب به هذا الحادث للتيار الإصلاحي داخل إيران، الذي رفض، من جهةٍ، الاعتداء على البعثات الدبلوماسية السعودية، بوصفه تصرفًا يسيء إلى مساعي إخراج إيران من عزلتها، خصوصاً بعد توقيع الاتفاق النووي، وكي لا يجري، من جهةٍ أخرى، تكريس صورة عن إيران، باعتبارها لا تحترم القواعد والأعراف الدولية، خصوصاً تلك المتعلقة بحماية البعثات الدبلوماسية، وذلك بعد أن تكرّرت هذه الحوادث، وكان آخرها الاعتداء على السفارة البريطانية في طهران. وعلى الرغم من أنّ التيار الإصلاحي في إيران يعدّ الأقرب إلى مفهوم الدولة، والتعامل مع الشيعة العرب باعتبارهم مواطنين في دولهم، فإنّ الإصلاحيين كانوا، في البداية، مستعدين لمجاراة المتشددين في قضية إعدام نمر النمر، في سياق المزايدات في أجواء انتخابية؛ فإيران على عتبة انتخابات مصيرية لمجلس الشورى (البرلمان) ومجلس الخبراء الذي تُناط به مهمة اختيار المرشد الأعلى للثورة الإسلامية في إيران.
خاتمة
على الرغم من التصعيد الأخير في العلاقات السعودية – الإيرانية، فإنّ حدوده تبقى مضبوطةً بقيودٍ دولية وإقليمية، يصعب تجاوزها، فضلاً عن أنّ الرياض وطهران لا ترغبان في دخول هذه المواجهة، أو تحمّل أعبائها. لذلك، من المرجح أن تستمر المواجهة بينهما في ساحاتٍ إقليمية عديدة مثل اليمن. ولكن، تبقى أهمها سورية؛ إذ لا يمكن أن تقبل السعودية بسقوط سورية في الحضن الإيراني بعد العراق، لأنّ ذلك يعني فعلياً وقوع السعودية نفسها في قبضة النفوذ الإيراني.