التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية (1)
تطورات الملف السوري
١- التطورات الميدانية في سياقاتها ومدلولاتها:
كانت وما زالت التطورات الميدانية، في مختلف المناطق السورية، تجري على خلفيات سياسية مباشرة أو غير مباشرة، يتعيَّنُ إطارها العام في استمرار غياب التوافق وتضاؤل الجهود الدولية لإنهاء الأزمة السورية عبر حل سياسي من جهة، واشتداد حدة التنافس والصراع بين القوى المتدخلة على توسيع نفوذها وتعظيم مكاسبها، لترجيح موقفها التفاوضي من جهة اخرى، وخاصةً في ظل غياب دور أمريكي فاعل. حيث ما يزال التلاعب الدولي والإقليمي بمصير سوريا وشعبها مستمر خدمة لأجندات دولية وإقليمية، وجعلها ساحة للحروب وتصفية الحسابات على حساب السوريين ووطنهم ومستقبلهم، والضرب عرض الحائط بمصالحهم في السيادة والاستقلال والحرية وبناء دولتهم الحديثة القائمة على المواطنة المتساوية.
أ- في مناطق الجنوب السوري: يشكِّلُ دخول القوات الروسية وميليشيا الأسد إلى درعا الحدث الميداني الأبرز، فبعد حصار خانق ومفاوضات شاقة ومقاومةٍ وصمودٍ بطولي، من أهاليها وفصائلها الثورية للتمسك بأرضهم، والدفاع عنها، والتصدي لمحاولات تهجيرهم ولمشاريع التغيير الديمغرافي التي تغذيها إيران والأسد وروسيا. انتهت هذه المعارك الشرسة إلى القبول بالتسويات، بعد أن تبين أن الاحتلال الروسي ينفِّذ خطة تحظى بموافقة دولية وإسرائيلية وبعض الحكام العرب، وأن البعد الدولي لا يقتصر على ضمان تمريرٍ آمن لخط الغاز المصري- الإسرائيلي إلى لبنان عبر سوريا، بل لتمكين روسيا من فرض نفوذها في الجنوب السوري لضمان أمن إسرائيل، على الرغم من تموضع الميليشيات الإيرانية على الحدود مع الجولان المحتل والأردن. لكن سرعان ما عادت الأوضاع كالسابق في درعا وعموم الجنوب السوري حيث تسود حالة من الفوضى، وانفلات السلاح، وانعدام الأمن وارتفاع وتيرة الاغتيالات لمقاتلين سابقين بمن فيهم من التحق بصفوف النظام. كما تتعرض حواجز النظام وآلياته وعناصره لهجمات مستمرة.
أما في محافظة السويداء: يعمل النظام وحلفاؤه على إذكاء مخطط الفتنة الداخلية وضرب الحالة الأمنية، بهدف القضاء على تمرد المدينة وإخضاعها، لتعذَّر مواجهتها بالقوة. فقد تم إغراق المحافظة بالعديد من الميليشيات والمافيات المسلحة كحزب الله والدفاع الوطني والعصابات المرتبطة بأجهزة المخابرات، وينشط الجميع لتوسيع دوائر الفوضى والانفلات الأمني، وإطلاق عمليات النهب والسلب، والخطف والاغتيال، وجمع الخُوَّات، وإنعاش تجارة المخدرات. وقد تصاعدت مؤخراً معدلات الجريمة والسطو والقتل. تدلل التطورات في درعا والجنوب عموماً، أن النظام وحلفاءه، يسعون بكل السبل للقضاء على استمرار الحالة الثورية الرافضة والمتمردة على سلطة الأسد ومنع ظهورها، وأن القوى الدولية وبعض الإقليمية تدعم في الخفاء هذا التوجه. فالمطلوب كسر إرادة أهل حوران وتطويع تمرد جبل العرب اللذين رفضا بقوة مهزلة الانتخابات، وأن أصحاب هذا التوجه لن يطمئنّوا قبل انتزاع فكرة الحرية والكرامة من صدور أبنائها، ومسح ثقافة الفزعة والتعاضد عند الحوارنة وكسر روح الكرامة والاعتزاز بالنفس لدى أهل الجبل، ونسف أسس التضامن بينهما كمقدمة لابد منها لانتزاع الهوية الوطنية. لأن إسرائيل ومن ورائها هذه القوى تريد جنوباً من دون هوية، أو بهويات متصارعة كنواة لدويلة دون سلاح، وبدون خصائص وأهداف وطنية، لا سيادة لها ولا لون ولا طعم، لتكون أكثر ملائمةً لشرق أوسطيٍّ جديد.
ب- مناطق شمال غرب سوريا: منذ اتفاق آذار 2020، لم تتوقف انتهاكات الروس والأسد وإيران له، إلا أن التّصعيد العسكري الواسع وحملة القصف العنيف للطيران الحربي الروسي ومدفعية الأسد، لأكثر من مائة يوم، ضد تجمعات المدنيين والبنية التحتية في عموم أرياف إدلب وحلب واللاذقية، مع محاولات الاقتحام وارتكاب العديد من المجازر كان أخرها مجزرة أريحا وسرمدا على سبيل الرسائل النارية، هي التي دفعت الأتراك لإرسال المزيد من الأرتال العسكرية لوقف هذه الهجمات، وخصوصاً على جبل الزاوية وحماية نقاط المراقبة في شمالي غرب البلاد.
إذا كان هدف الروس من التصعيد العسكري قضم المزيد من مناطق المعارضة، وخاصة في جبل الزاوية وجنوب ال M4. لكن تحريضها لميليشيا الأسد وقسد على عمليات أمنية في المناطق الحدودية وصولاً إلى الداخل التركي، هدفه إجبار تركيا على تقديم تنازلات ميدانية وسياسية عبر التلويح بتوسيع دائرة التهجير. إلا أن أنقرة تركز جهودها للحفاظ على أمنها القومي، سواءً بالحشود العسكرية على طول حدودها أو من خلال الدبلوماسية في إطار أستانة وسوتشي. لكنها ترفض استقبال مزيد من اللاجئين، وترى في خسارتها لمناطق جبل الزاوية وجنوب ال M4 تهديداً لأمنها وخسارة لنفوذها في كل المناطق التي كسبتها في عملياتها العسكرية الثلاثة المتلاحقة.
بعد فشل اجتماع أردوغان وبوتين الأخير في الوصول إلى تفاهمات جديدة، عادت موجة التصعيد من جديد، مما دفع الأتراك للتهديد بشنِّ عمليات عسكرية لحماية أمنهم ومناطق نفوذهم. فالتهديدات التركية المترافقة مع تعزيز ترسانتها العسكرية في المنطقة تعكس إصرار أنقرة على مواجهة روسيا والنظام وقسد ومنعهم من التمدد في مناطقها، عبر إقامة حزام ناري دفاعي في مناطق التماس في إشارة إلى رفضها التخلي عن جبل الزاوية ورفض مقترحات الروس لتبادل الأراضي. إلا أنه من غير المرجح أن تشهد هذه المناطق تحولات ميدانية نوعية، لأن الوضع الراهن سيبقى محكوماً بالعلاقات الاقتصادية الكبيرة والمصالح المشتركة بين الطرفين من سوريا إلى القوقاز، ومن شمال البحر الأسود حتى شرقي المتوسط.
ج- مناطق شمال شرقي سوريا: لعلَّ تعقيد المشهد الميداني وغموضه هما السمتان الأبرز لأوضاع تلك المناطق، نظراً لتعدد القوى المتصارعة على الأرض وتناقض أو تقاطع أجنداتها وأهدافها. فعلى وقع التهديدات التركية المعزّزة بحضور عسكري وازن، والتحشيد الروسي غير المسبوق من المقاتلات والقاذفات في مطار القامشلي، والتعزيزات العسكرية الأمريكية الجديدة، إلى جانب وجود ميليشيات إيران والأسد، تتشابك خيوط الصراع والمناورة دافعةً بأجواء المنطقة نحو المزيد من التوتر الذي قد يحمل معه احتمالات المواجهة.
تستعد أنقرة لإطلاق عملية عسكرية ضد قسد والأسد معاً بهدف استكمال ما توقفت عنده في عملية (نبع السلام) المتوَّجة باتفاق (سوتشي 2019)، أي توسيع عمق سيطرتها حدودياً مسافة 32 كم، لتحصين أمنها القومي. بينما تواصل موسكو مناوراتها مع خصوم تركيا بهدف فتح الطريق نحو مزيد من السيطرة وانتزاع تنازلات ميدانية وسياسية من كافة الأطراف. ويبدو أن عين روسيا مسلَّطةٌ أصلاً نحو مناطق قسد الغنية بمنابع الغاز والثروة النفطية.
أما “قسد” التي تخشى وقوف واشنطن كمراقب حيادي أمام التهديد التركي لمناطق نفوذها، فإنها تسعى في كل اتجاه لتحاشي الأسوأ، سواءً بالتوسل لاستمرار الدعم الأمريكي، أو عبر فتح قنوات حوار مع النظام بتشجيع روسي، أو الارتماء في أحضان الروس طلباً للحماية، ولم تستثن في محاولاتها هذه إمكانية فتح ثغرة في جدار العلاقة مع المعارضة السورية ممثلة بالائتلاف.
٢- التطورات الاقتصادية والأوضاع المعيشية:
بعد أكثر من عشر سنوات من التدهور الاقتصادي المتسارع لنظام الأسد، والذي ينعكس اليوم بصور مأساوية على حياة الناس ولقمة عيشهم وتردّي مستوى معيشتهم عموماً. يبدو أن الأسد وحلفاءه وأعوانه ماضون بشكل ممنهج لدفع البلاد نحو التدمير الشامل على كافة الصعد والمستويات من خلال افقار الناس وتجويعهم وحصارهم اقتصادياً ومعيشياً عبر مافياته التي تسيطر وتحتكر تجارة المواد الأساسية للمواطنين. وكذلك الرفع المستمر لأسعار المواد الغذائية والخدمات والغاز والمازوت والبنزين. فعلى سبيل المثال أصبح سعر ليتر الزيت ثلاثة أضعاف سعره العالمي، وثمن أسطوانة الغاز المنزلي في السوق السوداء تعادل ضعف راتب الموظف. إلى جانب إصدار النظام المزيد من القرارات والإجراءات التعسفية بهدف السطو على ما تبقى من مدخرات الناس وأرزاقهم لسد عجز خزينته المنهارة.
مؤخراً أتحفتنا حكومة الأسد بإقرار موازنة 2022 بواقع (13.325) ترليون ل.س أي ما يعادل (5) مليار دولار فقط. وهي أقل من ثلث موازنة 2011، التي بلغت 18.3 مليار دولار، وهذا يؤكد تزايد قيمتها بالليرة السورية وتناقص قيمتها بالدولار، وينطبق هذا على كل الموازنات السابقة منذ عام 2012، وإذا كان من البديهي ألا يثق أحد بأرقام موازنات الأسد إلا أن أرقام الموازنة الجديدة تكشف بنفسها أزمة النظام الحقيقية حيث لم تتمكن حكومته وخبراؤه من تغطيتها خلال الأشهر الماضية واكتفى وزير ماليته بالاعتراف بوجود عجز يتجاوز 4 مليارات ليرة سورية فقط. إلا أن نسبة التضخم البالغة أكثر من 750%، والتدهور الكبير لقيمة الليرة السورية الَّتي فقدت 95% من قيمتها، وتآكل نسبة القدرة الشرائية للمواطنين، كلها تؤكد أن مقدار العجز يتجاوز هذه الأرقام بأضعاف مضاعفة.
إن التدهور الكبير الذي شهدته موازنات السنوات الماضية حتى الآن، يعكس بشكل حقيقي حجم التراجع المخيف للواقع الاقتصادي، في ظل الانخفاض الكبير للواردات إن لم نقل انعدامها، فالجزء الأساسي من الموازنة يعتمد على زيادة الضرائب والرسوم التي بلغت أكثر من 70% من حجم الإيرادات، كما أن 90% منها أي 11.3 ترليون مخصص للإنفاق الجاري من رواتب وأجور ونفقات عامة، مقابل (2) ترليون ل.س قيمة الإنفاق الاستثماري. أما حجم الدعم الحكومي فلم يتجاوز 5.5 ترليون ل.س بلغ نصيب المحروقات فيه 2.7 ترليون والطحين 2400 مليون ل.س. وهذا يعني اقتصادياً أن الميزانية تكاد تخلو من أية إمكانية لتوليد الاستثمارات أو فرص عمل جديدة أو أية توظيفات مالية لتحسين واقع الليرة السورية المنهارة أو تحريكك عجلة الاقتصاد المشلول. أما معيشياً فتعني تآكلاً كبيراً ومضطرداً للدعم الحكومي ورفعه عن مواد أساسية كالسكر والرز والزيت والخبز والمحروقات وغيرها، وبالتالي فإن هذه الموازنة قد تراجعت بنسبة كبيرة عن الموازنات السابقة ولا مخرج سوى اللجوء إلى تغطية العجز بالاستدانة أو بسندات الخزينة من قبل المصارف الخاصة ويبقى العنصر الحاسم في كل الأحوال هو في كيفية انعكاس هذه الموازنة على أوضاع الناس ومعيشتهم.
إن مفاعيل الأزمة الاقتصادية على السوريين لم تعد تقتصر على ولادة طوابير الانتظار سعياً وراء قوت يومهم عبر البطاقة الذكية، ولا على انسحاق مداخيلهم أمام توحش الأسعار وموجاتها المتكررة في الارتفاع وازدهار السوق السوداء التي تبسط هيمنتها على توفير السلع والتحكم بأسعارها، ولا على سقوط 92% منهم تحت خط الفقر والعوز، ولا ارتفاع الضرائب. بل تعدته لتصبح مقدرات وأرزاق السوريين تحت رحمة قرارات الأسد وإجراءاته المافيوية، بدءاً من القانون رقم (15) لتنظيم استيفاء ضريبة البيوع العقارية، وقرارات الحجز الاحتياطي الكيدية على ممتلكات تجار وحرفيين وصناعيين ورجال أعمال وشركات شملت أكثر من 2000 قرار في دمشق و 650 في حلب، وقرار استبعاد نصف مليون مواطن من الدعم الحكومي عبر البطاقة الذكية وعدة إجراءات أخرى لا مجال لحصرها، لكن هدفها واحد وهو الاستيلاء المنظم والقانوني على أموال السوريين وأملاكهم لدعم خزينة الدولة الخاوية، في حين تواصل مديرية الجمارك وحماية المستهلك وعناصر المكتب السرِّي التابع للأسد نشر دورياتهم بكثافة وتنفيذ حملات تستهدف بدءً من محلات ألبسة البالة إلى المصانع وورشات العمل ومخازن التجار ومحلاتهم في عدد من المناطق الصناعية في دمشق و حلب مما دفع بعشرات الآلاف من التجار والصناعيين لإغلاق محالهم ومغادرة البلاد. ومع الارتفاع المتكرر لأسعار السلع الأساسية والخدمات بنسب غير مسبوقة، ومع التفاقم المضطرد لأزمات الخبز والغاز والمحروقات والكهرباء والمواصلات والمواد الغذائية، تأتي إجراءات الأسد لتزيد الطين بلة، محولة حياة السوريين إلى جحيم حقيقي لا يحتمل، بعد أن تعدت تكاليف معيشة الأسرة السورية أكثر من نصف مليون ليرة شهرياً بينما، ما زال متوسط الدخل (لمن له دخل أصلاً) لا يتجاوز ال 75 ألف ل.س. وفي هذا المطاف لابد أن نذكر هاتين الملا حظتين:
أ-إن التدهور الشديد لأحوال الناس المعاشية، بعد خساراتهم الفادحة لممتلكاتهم ولأبنائهم سواء عبر القتل أو الاعتقال أو التهجير والذي تركز في صفوف أبناء الأوساط الشعبية والفقيرة، لكن ما زاد من تفاقم الأزمة، ظهور طبقة جديدة من اللصوص والشبيحة تنحدر من الفئات المغمورة ومن أصول فقيرة أيضاً، لكنهم الآن يملكون المليارات ويستثمرونها في الداخل السوري، وفي صميم الأزمة المعيشية الخانقة، والسلطة بدأت تصوغ قوانينها لحماية هؤلاء الذين أصبحوا خزاناً مالياً للنظام، ومن خلالهم يتوفر في سورية اليوم، رغم المحنة المعيشية ، كهرباء حرة ومحروقات حرة وخبز حر وكل ما يحتاجه المرفهون متاح ضمن قوانين السوق السوداء، حيث يتهيئ هؤلاء للمرحلة القادمة، وسنرى انعكاسات ذلك في سحق المجتمعات الفقيرة أصلاً ، وتلاشي الطبقة المتوسطة. ب-إن الأزمات الاقتصادية المتفاقمة أوصلت البلاد لحالة من الإفلاس، والأوضاع المعيشية وصلت حدود افقار الشعب وتجويعه، لا تنفصل بأي حال عن أجندة النظام السياسية، فكلاهما جزء من سياسة ممنهجة يتبعها الأسد وأعوانه، فتدمير الاقتصاد وهدر موارد الدولة لتمويل حربه ضد الشعب السوري، وإطباق الحصار المعيشي ومصادرة لقمة العيش عبر المافيات وأمراء الحرب يجمعها هدف واحد إخضاع المجتمع السوري والرهان على عامل الزمن لدفعهم للتهجير وإفراغ البلاد من أهلها لصالح قوى الاحتلال.
٣- التطورات السياسية
بات من المؤكد اليوم، أن من غير الممكن تتبع التطورات السياسية في الملف السوري إلا من خلال وضعه في الإطار الأوسع من أزمات المنطقة وعلى المستوى الدولي. فثمة متغيرات دولية وإقليمية عميقة تعيد تشكيل المشهد الإقليمي من جديد، عكست نفسها من خلال مواقف وأدوار مستجدة لأطراف إقليمية عديدة على أكثر من صعيد وفي ساحات مختلفة، لتطلق حراكاً دولياً وإقليمياً حول الشأن السوري لا دور للسوريين فيه، وقد رسمت ملامحه في اجتماع بايدن وبوتين مؤخراً.
أ-شكل التوافق الأمريكي الروسي على قرار تمديد العمل بمعبر باب الهوى نقطة انطلاق جديدة لانخراط موسكو في حوار استراتيجي مع الولايات المتحدة كانت تنتظره على أحر من الجمر، وكان لقاء القمة بين الرئيسين بداية لحراك روسي واسع بدأه بوتين بحصد مكاسب ميدانية في تسويات درعا ومكاسب أخرى في تصعيد عسكري واسع في إدلب بهدف الضغط على تركيا لانتزاع تنازلات ميدانية وسياسية منها، وتوظيفها لإعادة تأهيل الأسد، والتظاهر بالضغط عليه لتدوير عجلة اللجنة الدستورية التي ما زالت تؤدي دورها المرسوم لها بكسب المزيد من الوقت والفرص لترتيب الأوراق وتغيير الوقائع الميدانية بما يعزز التفويض الروسي الممنوح أمريكياً بالشأن السوري، وتوظيفه كغطاء دولي يسمح بحرية الحركة ويفتح الطريق أمام استكمال عوامل إنجاح خطته في حل الأزمة السورية، مراهناً على تغيير الموقف الأمريكي رغم فشل كل محاولاته عبر السنوات الماضية.
ب-إن فشل الجولة السادسة لاجتماع اللجنة الدستورية لم يكن مفاجئاً إلا لمن راهن على نجاحها، وخاصة في أوساط الائتلاف وهيئة التفاوض السورية. ذلك أن الجميع يعرف أن هذه البضاعة السياسية الفاسدة ما هي سوى منتج روسي، وهي بتشكيلتها وإدارتها تقاد منذ ولادتها بإرادة الدول، فهي طالما ظلت تقوم بدورها في تقديم خدمة كبيرة للنظام وداعميه للإيحاء بوجود عملية سياسية طالما بقيت الحاجة إلى تعقيمها وتعطيلها أمراً ضرورياً. فوفد النظام ومن ورائه روسيا وإيران حمل معه أداة التعطيل المتفق عليها بإشغال أعضائها بنقاشات تبعدها عن جوهر المشكلة أما وفد المعارضة ومثله وفد المجتمع المدني اللذان يمثلان شاهد زور في محكمة صورية، فما زالا يتخبطان في أحلامهما بكونهما يمثلان الشعب السوري رغم كل ما يفعلانه لإضفاء شرعية ما على هذه الاجتماعات التي توفر للنظام الغطاء السياسي المطلوب.
ج-سياسة إدارة بايدن اتجاه الملف السوري: مازال الملف السوري معلقاً، منذ تولي إدارة بايدن السلطة في البيت الأبيض، ولم يجد طريقه إلى قائمة أولوياتها، وما تزال سياستها غير واضحة حياله، بل تراجعت مكانته، ولم تتبلور الرؤية الأميركية اتجاهه حتى الآن. فنهج هذه الإدارة مع الملف السوري محفوفٌ بالمخاطر والغموض، رغم الضغوط الكبيرة من الكونغرس الأمريكي وغيره، فلم تعين هذه الإدارة مبعوثاً خاصاً لسورية، بل قررت الاستغناء عن هذا الدور، ودمجه في المسؤوليات الإقليمية لنائب مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى. ولم تفرض عقوبات جديدة على نظام الأسد باستثناء عقوبات محدودة على سجونه. بل إنّها قد أعطت الضوء الأخضر لاستجرار الغاز (المصري، الإسرائيلي) والكهرباء عبر الأراضي الأردنية والسورية إلى لبنان، وفي ذلك فوائد للنظام. وأعفت الدول المشاركة فيه من عقوبات قانون قيصر.
ورغم أنّ الولايات المتحدة ما تزال متمسكة بمواقفها المعلنة، وملتزمة نظرياً؛ بالتوصل إلى حلّ سياسي وفق قرار مجلس الأمن 2254، ولكن لا تبذلُ مساعٍ دبلوماسية جادة من جانبها، لترجمة مواقفها إلى إجراءات عملية واضحة. وتركز في الوقت الحالي، على نقطتين: توصيل المساعدات الإنسانية؛ ومواجهة “داعش”. لكن استمرار نجاحها في هذين المسربين سيظلّ موضع شكّ في غياب استراتيجيتها. وهذا يعكس، بشكل عملي، أهداف الإدارة الأميركية الجديدة في تحوّل أولوياتها الخارجية من الشرق الأوسط إلى آسيا لمواجهة الصعود الصيني، وترميم علاقاتها المتوترة مع أوربا وبقية حلفائها، ومعالجة ملفاتها الداخلية في الاقتصاد ومواجهة تداعيات كورونا.
إنّ أولويات إدارة بايدن في منطقة الشرق الأوسط، أصبحت أكثر وضوحاً، وتتمثل في مفاوضات فيينا والتوصل إلى اتفاق جديد مع إيران حول ملفها النووي، وموضوع الصواريخ البالستية، وتدخلها في دعم عدم استقرار المنطقة، ثم التفاهم معها على ترتيب رفع العقوبات، وهذا يعني أنّ سورية ليست أولوية لإدارة بايدن، وإنما تقع ضمن حلّ أزمات منطقة الشرق الأوسط. لكن بعد انسحابها من أفغانستان، وتسليمها لحركة طالبان، بدأت تتوضح سياسة الإدارة الجديدة التي لم تعد مرتبطة بطموحات إقليمية، مثل إسقاط النظام الإيراني عبر فرض عقوبات، أو تغيير نظام الأسد الذي أصبح تغيير سلوكه؛ هو المطلوب، وعدم معارضة تغيير بعض حلفائها من الدول العربية سياستهم بالتواصل مع الأسد. وهذه السياسة الجديدة أعلنها بايدن، في خطاب ما بعد الانسحاب من أفغانستان، حيث قال: إنّ عصر «بناء الأمم» أو «تغيير الأنظمة»، انتهى في أفغانستان وغيرها، أي في إيران وسوريا أيضاً، وإن الأولوية الآن هي لمحاربة الإرهاب، وتحديداً “داعش”.
وعلى الرغم من أنّ إدارة بايدن لم تتوصل إلى استراتيجية جديدة لمعالجة القضية السورية، إلا أنها لم تتجاهلها تماماً، حيث تدخل بايدن بنفسه لمنع روسيا من قطع الطريق الأخير للمساعدات الإنسانية إلى الشمال السوري عبر معبر باب الهوى، وكذلك فرض عقوبات على سجون نظام الأسد سيئة السمعة، لكن تحركات إدارة بايدن تبدو غير كافية مع استمرار تدهور الوضع على الأرض والقصف اليومي من قبل ميليشيا الأسد وطيران الاحتلال الروسي المدنيين والمدارس والمشافي في محيط إدلب وأرياف حلب، وانقلاب الروس والأسد على تسوية 2018 في درعا التي تمَت برعاية دولية، وفرض حصار وقصف وتجويع وإخضاع أهاليها، في استغلال واضح لصمت الإدارة الأميركية وامتناعها عن الفعل.
في الآونة الأخيرة، يبدو أن إدارة بايدن قد أخذت تبلور أهدافها في سورية. ففي 14 أكتوبر 2021، تحدث وزير الخارجية الأمريكي، بلنكين، عن سورية، حيث قال: إنّ واشنطن سوف تسعى إلى “… المضي نحو تسوية سياسية أوسع للصراع السوري، تتماشى مع قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254”. مع التأكيد على أن “ما لم نفعله وما لا ننوي فعله هو التعبير عن أي دعم لجهود تطبيع العلاقات أو إعادة تأهيل الأسد، أو رفع أيّ عقوبة مفروضة على نظامه، أو تغيير موقفنا لمعارضة إعادة إعمار سورية قبل إحراز تقدّم لا رجوع فيه، نحو حلّ سياسي نعتبره ضرورياً وحيويّاً.
وكذلك في 9 تشرين الثاني أعلنت الإدارة الأميركية موقفها الرافض لتطبيع العلاقات مع الأسد. على لسان المتحدث باسم الخارجية الأمريكية، نيد برايس، بعد اجتماع وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد مع الأسد بدمشق. حيث قال: إنّ إدارة بايدن “قلقة” من الاجتماع، وكذلك من “الإشارات التي يبعث بها”. “كما قلنا سابقاً إنّ هذه الإدارة (الأميركية) لن تعبر عن دعمها لأيّ جهود للتطبيع، أو لتأهيل بشار الأسد الديكتاتور المتوحش”. ودعا برايس “الدول في المنطقة، للنظر بعناية إلى الأعمال الوحشية التي ارتكبها النظام السوري والأسد نفسه؛ ضد شعبه خلال العقد الأخير”. وأكّد المتحدث أنه “فيما يتعلق بالولايات المتحدة، فلن نطبع علاقاتنا أو نرفع مستواها مع نظام الأسد، ولا ندعم تطبيع دول أخرى أو رفع مستوى علاقاتها معه، نظراً للأعمال الوحشية التي ارتكبها هذا النظام ضد شعبه”. وفي مؤتمر بروكسل أكد المبعوث الأميركي للملف السوري، أن واشنطن «لن ترفع العقوبات عن دمشق»، و«لن تطبع» معها، و«لن ترسل إشارات خاطئة» لها.
ومؤخراً تحدث مسؤولون أميركيون في جلسات مغلقة؛ عن توصل فريق إدارة بايدن إلى صيغة نهائية لأولويات أميركا في سوريا تتضمن خمسة أهدافٍ أساسية، لا تشمل إخراج إيران من سوريا، يبدو أنّ هذا هدف تكفلت به إسرائيل بالتنسيق مع الروس. والأهداف هي، أولاً: الإبقاء على الوجود العسكري في شمال شرقي سورية ومنطقة التنف، واستمرار محاربة داعش والمجموعات الإرهابية الأخرى حتى هزيمتها. ثانياً: توسيع وصول المساعدات الإنسانية عبر الحدود. ثالثاً: وقف إطلاق النار شامل. رابعاً: دعم محاسبة النظام السوري على جرائمه، والحفاظ على المعايير الدولية فيما يتعلق بحقوق الإنسان، وتجريده من أسلحة الدمار الشامل. خامساً، دفع مسار التسوية السياسية بشكل أفضل وفق القرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254. مع حرص واشنطن على دعم الدول المجاورة لسورية واستقرارها وتعني إسرائيل والأردن.
والخلاصة؛ لا تطبيع مع نظام الأسد، ولا لإعادة تأهيله، كما يسعى الروس وحلفاؤهم ويروجون له. لكن لا توجد مساعٍ دبلوماسية جادة من جانب الولايات المتحدة الأمريكية، لترجمة مواقفها المعلنة إلى إجراءات عملية ملموسة وواضحة، توقف المأساة السورية، وهذا ما يدل على أنه لا حلّ سياسيّ للقضية السورية، يلوح في الأفق.
د-الموقف الروسي في الملف السوري: تقع سورية في أولويات روسيا، الشرق أوسطية، التي ترتبط ارتباطاً مباشراً بجهودها لاستعادة مكانتها في النظام الدولي. واستخدمت سورية إلى حدٍ بعيد لخدمة أهداف سياستها الخارجية، كورقة رابحة في علاقاتها المضطربة مع الغرب، وهي الورقة الهامة بيد موسكو فلو خسرت نظام الأسد؛ فسيعني ذلك فشلها في سورية، لذلك فهي تبذل كلّ ما لديها من إمكانات سياسية ودبلوماسية كي تبقيه على قيد الحياة، حتى لو كانت البلاد مدمرة واقتصادها منهار.
وليس هناك من تغيير جوهري في سياسة الاحتلال الروسي اتجاه القضية السورية، لكن هناك تغيّر في الآليات لتمرير مخططاته، وفرض أجنداته، ورؤيته للحلّ السياسي. فموسكو لا تزال ملتزمة بحماية الأسد، وحافظت على سياسة ثابتة تجاهه، تركزت على توفير الدعم الجويّ واللوجستيّ وتقديم السلاح، وحماية النظام دبلوماسياً في الأمم المتحدة والهيئات الدولية الأخرى، وهو جهد آتى ثماره في ساحة المعركة، فالنظام الآن يشعر بالأمان رغم سوء حال البلاد والعباد. كما استطاعت روسيا تحقيق “مكاسب” كبيرة على الأرض باستعادة النظام مناطق واسعة، كانت تحت سيطرة فصائل المعارضة المسلحة. ومقابل إنقاذ نظام الأسد من الانهيار والسقوط، ضمنت موسكو وجوداً عسكرياً دائماً في المياه الدافئة، وازدادت مبيعات أسلحتها؛ بعد أن جرّبتها في قتل السوريين وتدمير مدنهم وقراهم؛ مجربةً لذلك أكثر من ثلاثمئة نوع منها في لحم السوريين. وكذلك فقد انتزعت مكاسب اقتصادية ولوجستية، وقامت بتعطيل جميع الحلول السياسية للأزمة السورية على أساس القرارات الدولية ذات الصلة، وخاصة قرار مجلس الأمن الدولي 2254. كما أفرغت جهود الأمم المتحدة من مضمونها، وكرَّست مسار ” أستانا” و”سوتشي” كبديل لها، ومارست شتى أنواع الألاعيب والبهلوانيات لكسب الوقت، وتبذل موسكو ومن خلفها إسرائيل؛ جهوداً كبيرة لإعادة تأهيل الأسد ونظامه؛ عربياً كمدخل لإعادة تأهيله دولياً. كما يطمح الروس إلى حلّ سياسي يضمن بقاء نظام الأسد مع إصلاحات شكلية لا تلبي أدنى مطالب السوريين بالتغيير. ومن ذلك ما طرحته مؤخراً على “الائتلاف” لتشكيل حكومة وحدة وطنية مناصفة مع النظام؛ برئاسة شخصية معارضة؛ ويبقى الأسد رئيساَ بصلاحيات محدودة.
وروسيا اليوم أمام واقع جديد، فهي تعاني من مأزق كبير في سورية، ونظام الأسد منبوذٌ داخلياً ودولياً، ويعاني من الانهيار؛ اقتصادياً واجتماعياً، وعاجزٌ عن تأمين رغيف الخبر للسوريين، والمراوغة والألاعيب الروسية أصبحت مكشوفة ومبتذلة، وصار لزاماً عليها التفاهم مع القوى الدولية والإقليمية؛ على عملية إنهاء حكم الأسد الذي أصبح من الماضي، وأن تعمل على تنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254 بشكل كامل، والذي سبق لها أن صوتت هي بنفسها لصالحه.
ه-الموقف الأوروبي: تركز الدول الأوربية على الحلّ السياسي المستدام للقضية السورية، وتؤكد على تمسكها بالقرارات الدولية ذات الصلة وخاصة قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254، كأساس لهذا الحلّ، كي تساهم في إعادة الإعمار، وبالتالي لا عودة للاجئين، ولا مساهمة في إعادة الإعمار، دون تنفيذ هذا القرار، مع استمرار فرض العقوبات على أركان نظام الأسد ومحاسبته على جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، التي ارتكبها بحقّ السوريين. والتعهد بعدم التخلي عن الشعب السوري وقضيته، واستمرار تقديم المساعدات الإنسانية. ولكن في ظل غياب دور أمريكي مُكمَل، تبقى هذا المواقف مجرد دعمٍ معنويّ للشعب السوري.
أواخر كانون الأول 2021
اللجنة المركزية
لحزب الشعب الديمقراطي السوري