تطورات الملف السوري ( 1 )
أ- الزلزال وتداعياته على الوضع السوري
طغت تداعيات الزلزال المدَمر وما أحدثه من كوارث وأهوال على كلِ ما عداها من أحداث طوال الأسبوع المنصرم، وبعد أن تكفل مع هزَاته الارتدادية المتكررة بنشر فواجعه ومآسيه في جنوب تركيا ومدن الشمال والساحل السوري ومحافظة حماه، متسبباً بقتل وجرح وإصابة ما يقارب المئة ألف إنسان حتى الآن. وسوف نكتشف كلَ يوم بل كل ساعة أن حجم الكارثة يفوق التوقعات، وأنَ نتائجها وفواجعها ستترك آثاراً عميقة في حياتنا ولسنوات طويلة. أودى الزلزال حتَى الآن بحياة أكثر من 40 ألف إنسان، بينهم أكثر من 5000 ضحية داخل سورية، عدا عن ألوف الضحايا والمصابين السوريين في تركيا. وسجلت الأمم المتحدة ومؤسساتها المعنية تقصيراً فاضحاً في إيصال الإغاثة لمستحقيها بالوقت المناسب. إذ لم تشهد مدن الشمال السوري المنكوبة أي دورٍ انقاذي أو إغاثي في الأسبوع الأول، مسجِلةً مع المجتمع الدولي فصلاً جديداً من فصول تقاعسهم وتخاذلهم عن حماية حياة السوريين، مقتربةً من حدود التواطؤ بحجَة عدم مخالفتها للقرارات الدولية، بينما وصلت عشرات الطائرات الإغاثية وحطَت رحالها في مطارات دمشق وحلب واللاذقية، وكذلك العديد من الوفود والاتصالات التي تواردت لتعزية الأسد بالضحايا. وهو يعوِل عليها كثيراً مع حلفائه كمنفذٍ لإنهاء عزلته العربية والإقليمية والدولية والمطالبة برفع العقوبات. بينما ملايين السوريين الذين تكدَسوا في المنافي والمخيَمات هرباً من بطشه واجرامه وبراميله المتفجرة، هم أكثر من تلقى نتائج الزلزال المدمِر.
يبقى من حقِ المنكوبين أن تحتضنهم فرق الإنقاذ الأممية والدولية -ولو وصلت متأخرة- بتوفير مراكز إيواء تجمع مشرديهم وتقيهم غوائل البرد والجوع، وتعالج المصابين منهم، كي لا يبقى المنكوبون ضحية الخذلان ونظام الأسد مرتين. لأن السوريين خبروا هذا النظام ولم يكن موقفه وسلوكه مفاجئاً لهم، اذ كيف يسعى لإنقاذهم بعد أن قتلهم ببراميله وسلاحه الكيماوي، ودمَر منازلهم فوق رؤوسهم وشرَدهم في كلِ أصقاع الارض!
في هذه المحنة السوداء التي ألمَت بشعبنا السوري لا بد لنا أن نرى عظمة هذا الشعب في مقاومة ثقافة الموت وحب الحياة عبر جهود وتضحيات منظمة الخوذ البيضاء لما قدمه رجالها من عمل وطني وبطولي، ومعهم مئات المتطوعين من الشباب السوري، بالرغم من قلة الإمكانيات والظروف الشَاقة، وكذلك الروح الوطنية الخالصة التي تجلت في مبادرات التضامن الأهلي والأخوي بين السوريين بكلِ ما انطوت عليه من نبلٍ وشهامة.
ب- في تطورات الأوضاع العامة:
مع اقتراب الذكرى الثانية عشرة لانطلاقة ثورة الشعب السوري المجيدة. يسود في جميع مناطق سيطرة الأسد، الفقر والجوع، وحالة من الاضطراب وفقدان الأمن والفوضى وانتشار الجريمة المنظمة والمخدرات، مع وصول الأوضاع الاقتصادية والمعيشية درجة من التردّي والاهتراء غير مسبوقة تنذر بانهيار شامل، بدأت تعكس نفسها بالمزيد من حالات الاختناق والتدهور في مختلف مناحي الحياة العامة والخاصةً، في مجالات الصحة والتعليم والزراعة والصناعة والتجارة، وفقدان الكهرباء والماء وانعدام المحروقات وتعطُّل وسائل النقل ومؤسسات الدولة عن العمل، مع ارتفاع جنوني بأسعار السلع والخدمات على خلفية تآكل قيمة الليرة السورية بعد أن وصل سعر الدولار الواحد إلى حوالي 7000 ليرة. وبالتالي فشل نظام الأسد في توفير الحد الأدنى من مقومات الحياة البسيطة للسوريين. مع تغول الفساد والإفساد المنظم في بقايا الدولة والسلطة والمجتمع، وعلى النهب الممنهج لميليشياته التي تحولت إلى مافيات مالية للاستيلاء على ما تبقى من مقدرات البلاد، وتحويل مناطق نفوذها الى سوق سوداء معممة، وتحرير أسعار السلع في الأسواق لصالح تجار الحرب، مع مواصلة نهب ومطاردة رجال الأعمال وأصحاب المصالح من تجار وصناعيين وصولاً إلى حرمان المواطن المسحوق من قوت يومه. لكنها تعكس أيضاً من جهة أخرى درجة تفاقم الصراع بين القوى المتدخلة عسكرياً حول مستقبل سوريا ومصير نظام الأسد، الذي أصبحت سلطته مجرد امتداد ومحصلة لهذا الصراع، ودريئةً يختبئ وراءها المتصارعون لتحقيق مصالحهم. وفي ظل هذا التضاؤل غير المسبوق لسلطته وفقدانه القدرة على اتخاذ القرار بعيداً عن مصالح عرابيه. لا يجد نظام الأسد أمامه سوى المناورة لإرضاء الجميع واللعب على تناقضاتهم بهدف إبقائه في الحكم.
ج- في التطورات السياسية:
يتصدر ملف التقارب بين أنقرة ونظام الأسد واجهة التطورات السياسية. ورغم وصوله لمستوى اللقاء الثلاثي الذي عقد في موسكو برعاية وإدارة روسية كخطوة على طريق اجتماع وزيري الخارجية تمهيداً لقمة تجمع بين الرؤساء، ولا نرى أن هذه الخطوة مفروشة طريقها بالورود، نظراً لطبيعة الصراع وحجم التناقضات بين الطرفين، مع رفض واشنطن والأوربيين لأي تطبيع مع نظام الأسد قبل الوصول لحل سياسي وفق قرار مجلس الأمن 2254. خاصة وأن الأجندة الروسية هي من تقف وراء تحريك هذا الملف، ومواصلة جذب تركيا إلى جانبها، طمعاً في توطيد الشراكة معها وبناء القواسم المشتركة في محاولة لتخفيف وطأة الحصار والعقوبات عليها.
وإذا كان من جملة أسباب الاستجابة التركية هي الحفاظ على مصالح كثيرة باتت تربط أنقرة بموسكو، فإن هاجس الأمن القومي وضرورة وضع حد للتهديدات القوى الكردية الانفصالية إلى جانب ضرورة التخفيف من أعباء اللاجئين السوريين، يشكّلان مركز الثقل في مواجهة الاستحقاق الانتخابي التركي، بعد أن أدرك بوتين أن فوز أردوغان يصب في مصلحته. أما الأسد الذي ينصاع لرغبة حليفه الروسي، فهو يتعطش لجرعة إنعاش تنقذ نظامه المتهالك تحت وطأة الانهيار الاقتصادي والعزلة السياسية، ويبحث باستماتة عن كل ما يجنبه المصير المحتوم بعد أن رفض الروس والايرانيون مده بما يخفف من وطأة أزماته الاقتصادية والمعاشية الخانقة، بسبب انشغال كل منهما بأزماته الخاصة.
وإذا كان من الطبيعي أن تحتشد تظاهرات السوريين في مختلف مدن الشمال للتعبير عن غضبتهم إزاء مشروع المصالحة مع النظام، ويستشعرون الخطر جراء هذا التقارب، ليقينهم أنه لابد أن يكون على حساب قضيتهم، وأنه سيرمي عرض الحائط بتضحياتهم وآلامهم وآمالهم، وهم يتذكرون أن مسيرة الانعطاف التركي ليست جديدة بل سبقتها صفقة حلب الشرقية وصولاً إلى مسارَي أستانا وسوتشي، وانزلاقها الى الحل الروسي الإيراني، رغم معرفة الجميع بأن الحل السياسي يستوجب رحيل نظام الأسد المتوحش.
د-في ملف التطبيع ومالاته
1- يبدو أن تسارع مسار التطبيع بين تركيا ونظام الأسد الذي ترعاه روسيا، قد اصطدم بمعيقات وعقبات عديدة ربما يقف في مقدمتها حالة الاستعصاء التي فرضها تناقض الأجندات واستحالة تسويتها بين القوى المتدخلة في الشأن السوري. إلا أن ما عكسه اللقاء الثلاثي في موسكو بين قادة أمنيين وعسكريين للأنظمة الثلاثة، والذي لا تتعدى حدوده وأهدافه إدارة مفاوضات عقيمة بما تنطوي عليه من مناورة واستكشاف آفاق ليس إلا، لكن هذا المسار استدعى تحركاً سياسياً ودبلوماسياً مكثفاً برز في العديد من اللقاءات والاتصالات بين قادة الدول المتدخلة في الشأن السوري.
2ـ ولئن عبرت إيران عن سعادتها بالتقارب التركي الأسدي عبر تصريحات عبد اللهيان في دمشق، إلا أنها لم تخف انزعاجها الشديد من استبعادها عن المفاوضات الجارية سواء من قبل حليفتها روسيا أو من نظام الأسد الذي انصاع للإرادة الروسية دون التشاور معها، ولعل هذا ما يفسر ابتزازها للأسد برفضها تقديم قروض مالية جديدة له، وامتناعها عن تزويده بالنفط بالسعر التفضيلي، بل ومطالبته بدفع ثمنه نقداً، إضافة لوجوب تسديد ديونه المتأخرة، إلا أن ما يوضح عمق استياء طهران من سلوك الأسد وصب جام غضبها عليه، هو أن الأخير لم يضعها في المكانة اللائقة بها في حساباته، والتي تفرض عليه أن لا يقدم على أية خطوة من دون إذنها وأخذ دورها ومصالحها كأولوية في اعتباراته، فتحركت بسرعة لعرقلة التفاهم الروسي التركي حيث تعتقد أن هدف هذا التفاهم إبرام تسوية مشتركة في الشمال السوري بين الأطراف الثلاث دون اعتبار لمصالحها، الأمر الذي يعكس استخفافا بدورها واستبعادها من بازار المقايضات المطروحة، وقد وجدت ضالتها في معاقبة الأسد مع تحذيره بضرورة ضبط تحركاته وموازنتها في ضوء ارتباط مصيره بالمصلحة العليا لإيران.
3-جاءت تصريحات الأسد التصعيدية بعد لقائه الوزير الإيراني لامتصاص غضب إيران، إلا أن طرح اشتراطاته التعجيزية كأساس للتقارب مع أنقرة، دفع الأخيرة لرد تصعيدي مقابل، بأن التطبيع معه ليس خيارها الوحيد، وأن العمل العسكري مازال مطروحا على الطاولة، وذهب مستشار أردوغان أبعد من ذلك عبر التهديد بالسيطرة على حلب لتأمين عودة مليوني لاجئ سوري إليها، كما أن هذا التصعيد الأسدي سيستدعي مزيداً من الضغوط الروسية عليه للقبول بالمقترح الروسي بتوسيع اتفاق أضنة كأساس للتقارب، ومن المرجح أن يكون استياء موسكو من التحرك الإيراني ودورها لعرقلة مشروعها وتعطيل جهودها الخاصة، سبباً في عدم حماسها لاستقبال عبد اللهيان، وخاصة أن الأسد استغل ضغوط الحليف الايراني في مواجهة الضغط الروسي الذي فرض عليه التقارب مع تركيا على الضد من حساباته، والخوف على سلطته، وفي هذا السياق جاء رفضه الاستجابة لدعوات روسيا وتركيا للاتفاق على موعد المرحلة الثانية والمتضمن عقد اجتماع بين وزراء خارجية.
4ـ كان من الطبيعي أن يستدعي التحرك الروسي في الملف السوري تحركاً أمريكياً مضاداً، فقد جدد البنتاغون رفضه القاطع لأية عملية عسكرية تركية، كما أعلنت وزارة الخارجية رسمياً رفضها لكل اشكال التطبيع مع الأسد، وتعمل على تشديد القيود عليه، وكان أخرها “قانون مكافحة مخدرات الأسد” الذي حوَّل الأسد من رئيس دولة إلى زعيم عصابة لتهريب المخدرات وسيكون مطلوباً دولياً، مغلقةً الباب على أية فرص للتطبيع معه أو لعقد أي نوع من الاتفاقات والتسويات، و الملاحظ أن إدارة بايدن رغم قلة تصريحاتها في الشأن السوري إلا أنها تعد العدة لاستباق التطورات، وتعمل على إعادة ترتيب تواجدها العسكري والسياسي في شرق الفرات وفي قاعدة التنف خصوصاً، وما تزال تؤكد على توجهها بإغراق روسيا وإيران ونظام الأسد في المستنقع السوري كما عبر عنه السفير جيمس جيفري، مع مواصلة السعي لاحتواء تركيا وتحذيرها من مغبة الذهاب بعيداً في تورطها مع الروس أو من خرقها للعقوبات المفروضة على نظام الأسد.
وطالما لم تظهر أية مؤشرات على تفاهمات جديدة بين واشنطن وأنقرة بعد مباحثات وزيري خارجيتهما، واكتفى البيان المشترك عن هذا اللقاء بإعادة التأكيد على العملية السياسية وفق قرار مجلس الأمن الدولي 2254، مع مواصلة التنسيق في محاربة الإرهاب. فمن المرجح عدم وجود مقايضات راهنة في الملف السوري، وسيبقى يواجه المزيد من التعقيدات كما أن تراجع الحماس الذي فرضه تباعد الرؤى وتناقض المصالح قد يفتح الباب واسعاً أمام تصاعد الصراع واحتدامه بين الدول المنخرطة في الصراع على سورية.
ه-تطورات القضية السورية في المستجدات الدولية
من الأسئلة التي ستطرح نفسها بحدّة عن مدى تأثير تلك التحولات في المنطقة العربيّة، وخصوصاً في الوضع السوري، حيث أن نظام الأسد يدين بكلّ شيء، بما في ذلك بقاء بشّار الأسد في السلطة، لدعم موسكو وطهران.
بغزو أوكرانيا، انهارت التوافقات السابقة في سوتشي والقدس وتفويضات الولايات المتحدة لروسيا بالشأن السوري، بل أصبحت هزيمة بوتين، هدفاً للولايات المتحدة. تضغط على دول الإقليم، بما فيها إسرائيل، لحسم التحالفات الإقليمية وتكون الأولوية للولايات المتحدة. فـ”إما معنا أو ضدنا”. كما أدى انسداد الأفق أمام المَخرَج العسكري المشرّف لبوتين إلى إضعاف القوة الروسية بشكل استراتيجي. فلم تعد روسيا تملك القدرة حتى على دعم نظام الأسد في أزمته الاقتصادية، مما يخلق فراغاً استراتيجياً. يغري أردوغان للتفكير بما بعد روسيا، وتحضر إسرائيل لتصعيد إقليمي أبوابه العربية مفتوحة. وعلى إيقاع هزيمة الروس تتحرك القوى الدولية في سورية بحذر ولكن بثبات، ليصبح احتمال اشتعال الخطوط قضية وقت.
أمام هذا الواقع، لا تزال سياسة إدارة بايدن، تجاه القضية السورية غامضة. فباستثناء البيانات والنوايا الحسنة، لا نجد لديها حتى الآن أي خطة أو رؤية تجاه هذه القضية. وقد ألحق التردد والتقلب الأميركي الطويل، ضرراً كبيراً بالسوريين وقضيتهم وبالمنطقة وحتى بأميركا ومصداقيتها. وهي تترك العنان للتفاعلات الإقليمية والسورية، لعل حراك الوقائع يفرز جديداً يمكن البناء عليه. وهي تدرك، أن الأحداث المتسارعة ستقحمها قريباً في الصراع.
صحيح أن لا حرب في سورية من دون القوى المحتلة، وأن لا سلام فيها، من دون السوريين. لكن السوريين هم الحلقة الغائبة في الصراع، وفي ظل استمرار غيابهم، تبقى قضيتهم على رف القضايا المؤجلة. أو تعمد القوى الدولية لخياطة الجرح السوري بقيحه، وبعيداً عن مصالحهم وطموحاتهم بالحرية والكرامة والعدالة، وهذا يعني عودة الصراع إلى المربع الأول، لتعاود دورة العنف والتفكك من جديد. ومع ذلك، يبقى السوريون هم الغائب الحاضر، وقبل فوات الآوان، يحتاج السوريون إلى بديل وطني. يتمسك بقرارات الشرعية الدولية ذات الصلة، ويتمسك بأهداف الثورة والقرار الوطني المستقل وصياغة عقد اجتماعي جديد للشعب السوري.
اللجنة المركزية
لحزب الشعب الديمقراطي السوري