خطار أبو دياب
تمسكت الترويكا الأوروبية (ألمانيا، بريطانيا وفرنسا) بالاتفاق النووي المبرم مع إيران في يوليو 2015، وراهنت على وصول جو بايدن إلى البيت الأبيض من أجل إرساء تعاون مع الولايات المتحدة في الكثير من الملفات الدولية ومن أبرزها الملف الإيراني. لكن تداعيات إجراءات وأحداث السنوات الأخيرة لن تجعل المهمة سهلة لأن التطبيع مع إيران يقتضي عمليا ربط البرنامج النووي بالبرنامج الصاروخي والتوسع الخارجي.
وفي هذا الصدد، ترفض طهران توسيع التفاوض ولا تبدي أي مرونة بالرغم من إستراتيجية أقصى الضغط وضربتي سليماني وفخري زاده. لذلك بانتظار تمركز إدارة بايدن وتبيان أولوياتها، وبانتظار الانتخابات الرئاسية الإيرانية في يونيو القادم، سيكون البرنامجان النووي والصاروخي تحت المجهر وسيكون هناك سباق زمني للحد من مخاطر البرنامجين، تمتد مرحلته الأولى إلى نهاية ولاية دونالد ترامب، وستكون مرحلته الثانية خاضعة لحسابات وتوازنات إقليمية ودولية. بعد الانتكاسات الإيرانية في 2020 يمكن أن نشهد منعطفات حادة في 2021.
قبل عودة واشنطن المنتظرة للاتفاق النووي ومواكبة أوروبا لذلك، أتى اغتيال محسن فخري زاده، أب البرنامج النووي الإيراني، ليسلط الضوء على وجود “برنامج نووي عسكري مواز، جرى إبقاؤه سرا، حتى بعيدا عن أعين مسؤولي الحكومة الرسمية بالبلاد”. وهذا الكلام لمصدر أوروبي متابع للأنشطة الإيرانية يستند إلى جملة من الدلائل والإشارات إلى سعي إيراني منذ منتصف تسعينات القرن الماضي لإقامة برنامج مواز لا يهدف بالضرورة إلى تصنيع قنبلة نووية بشكل سري، بل ضمان الاتجاه نحو تحقيق “العتبة النووية” (وفق المثال الياباني) وهذا يعني الوصول إلى مستوى السيطرة على دورة الوقود النووي اللازم لتركيب قنبلة نووية، لكن من دون إنتاج هذه القنبلة.
وفي هذا المجال نشير إلى تسريب لاجتماع بداية التسعينات كشف خلاله الرئيس الإيراني الأسبق علي أكبر هاشمي رفسنجاني عن شراء طهران لقنابل نووية بدائية تقليدية من تركة الاتحاد السوفييتي السابق. بالطبع يحتاج ذلك إلى تدقيق لكن ما يزيد أكثر من منسوب القلق هو حجم تطور البرنامج الصاروخي والأسرار المحيطة به.
بعد مصرع فخري زاده، يقدر خبير عسكري عمل سابقا في الناتو أن إيران استثمرت أكثر من مئة مليار دولار في برنامجها النووي، وهو يتساءل لماذا تنفق كل هذه الأموال في بلد لديه طاقة كافية ولماذا تنفق مبالغ ضخمة لتطوير صواريخ دقيقة للوصول إلى تصنيع صاروخ قادر على حمل رأس حربي نووي، وهنا يركز هذا الخبير على دور فخري زاده في الربط بين البرنامجين النووي والصاروخي.
وبالرغم من وقع عملية الاغتيال، يرجح أن المرشد علي خامنئي سيلوح دوما بالانتقام، لكنه أعطى توجيهاته للتركيز على أهمية استمرار عمل فخري زاده للوصول نحو “الحافة النووية” والمناورة مع إدارة بايدن والأوروبيين وفق نفس الأسلوب المتبع سابقا مع إدارة باراك أوباما حيث تم تقديم تنازلات بخصوص الشق المدني العلني من البرنامج النووي، بينما بقي الجانب العسكري الخفي والبرنامج الصاروخي خارج دائرة التفاوض.
منذ مايو 2019 أوقفت طهران تنفيذ كل التزاماتها التي نص عليها “الاتفاق النووي” جراء انسحاب أميركا منه مايو 2018، لكنها حرصت على أن تكون الخطوات التي اتخذتها ردا على الانسحاب يمكن العودة عنها إذا قرّرت أميركا العودة إلى الاتفاق. لكن الجانبين الأميركي والإسرائيلي استمرا في عملياتهما السرية ضد الشق العسكري المفترض من البرنامج النووي وحسب مصادر متطابقة كانت “الانفجارات والحرائق الغامضة” في الصيف الماضي في منشأة بارشين للصواريخ، ومنشأة نطنز النووية حيث تم تدمير تجمع لأجهزة طرد مركزي متقدمة.
وبعد اغتيال زاده تم الكشف عن بناء تجمع جديد قرب نطنز وطبعا تحت الأرض. وكل ذلك يعني أن الضربات منذ 2010 أخرت وأنهكت البرنامج النووي لكنها لم تقوضه خاصة أن مهلة اتفاق 2015 تنتهي في 2025 وتجعل الموقف مفتوحا على كل الاحتمالات.
في هذا السياق، بينما يؤكد أكثر من مسؤول معين في إدارة بايدن على العودة إلى الاتفاق النووي ومعالجة باقي الملفات لاحقا. لكن ذلك يفترض تخلي إيران عن طلب رفع العقوبات والكثير من العقبات الأخرى، لكن اللافت كان تبني الدول الأوروبية الموقعة على الاتفاق موقفا مهما، على لسان وزير الخارجية الألماني هايكو ماس، الذي تتولى بلاده الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي حتى نهاية هذا العام، فحواه أنه “ينبغي أن يكون هناك نوع من اتفاق نووي مع إضافات لا أسلحة نووية لكن أيضا لا برنامج صواريخ باليستية يهدد كل المنطقة. إضافة إلى ذلك، ينبغي على إيران أن تؤدي دورا إيجابيا في المنطقة”.
ومما لا شك فيه سيشكل هذا الموقف قاعدة عمل لترتيب الأوراق مع الإدارة الأميركية الديمقراطية المنتخبة ويجعل من الدول الأوروبية شريكا تاما في التفاوض. ويعد هذا الموقف ضاغطا بدوره على إيران ونجاحا معنويا لإدارة الرئيس الأميركي ترامب، التي رسمت سقفا لا يمكن لإدارة بايدن أو أي مفاوض آخر تجاوزه، خاصة أن الخشية من تصعيد يوصل المنطقة إلى الحرب أو استمرار زعزعة بلدان هشة من العراق إلى لبنان.
تبعا لكل هذه المعطيات، ستكون عودة التفاوض بين واشنطن وطهران حول الملف النووي الإيراني أكثر صعوبة. وسيمثل التناغم الأوروبي مع إدارة بايدن ضغطا إضافيا على طهران، وسيترك ذلك أثره على الموقفين الروسي والصيني اللذين لن يتجاوبا حكما مع أي سعي إيراني لتجاوز الخطوط الحمراء في البرنامجين النووي والصاروخي.
ونظرا لإعلان واشنطن إشراك المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة في أي مفاوضات مقبلة، وللدور الإسرائيلي المؤثر في هذا الملف، ستكون طهران في موقع تفاوضي أكثر حرجا مما كان عليه الأمر مع إدارة أوباما.
ومن دون شك أن التأزم الداخلي ومعركة الانتخابات الرئاسية وملف خلافة المرشد ستلقي بظلالها على دائرة صنع القرار في إيران للجنوح نحو مغامرة غير محسوبة أو تدوير الزوايا لضمان استمرارية النظام.