مركز بيروت لدراسات الشرق الأوسط
— بقلم: علي أسعد وطفة
— يشكل التطرف الديني صورة مخيفة من صور التطاحن السياسي المعاصر، ومظهرا من أكثر مظاهر البؤس الإنساني قدرة على إثارة الرعب والخوف نفوس البشر. وقد حظيت هذه الظاهرة على اهتمام الباحثين الذين ما فتئوا يكرسون جهودهم العلمية للكشف عن أبعاد هذه الظاهرة وتقصي معالمها. فالإرهاب يكتسح العالم ويشد الرحال إلى مختلف أصقاع الأرض ليخطف شبابها وشيبها في دورة دموية رعناء لا تعرف حدودا لبطشها ونقمتها يُقدم فيها الأبرياء قرابين على مذابح المقدس استرضاء للإله وطلبا لطاعته في زمن يُعتقد فيه أن الإنسانية قد تجاوزت عهودها البربرية وهجرت محطاتها الهمجية مرة واحدة إلى الأبد.
وفي دورة التأمل المنهجي في جوانب هذه الإشكالية يطرح الباحثون أسئلتهم المشروعة حول العلاقة بين العنف والدين والرمز والأسطورة. لقد أدرك كثير منهم وجود ديناميات متضافرة بين المقدس والأسطورة والرمز التي تفعل فعلها في توليد العنف الديني في أكثر صوره تطرفا. فالعنف الديني يجد في المقدس والأسطوري الرمزي أطراف معادلته الأساسية التي تزوده بالطاقة والقوة والمشروعية. ومما لا شك فيه أن التطرف الديني المعاصر ينطلق من هذه المتغيرات الدينامية ليكّون معادلته الرهيبة ويشكل أداة القهر التي تقض مضاجع البشر فتهدد أمنهم وتجرح كرامتهم.
وإذا كانت هذه العلاقة بين العنف الديني وبين الرمزي والمقدس والأسطوري تشكل موضوع هذه المقالة، فإن السؤال الأساسي الذي يشكل عقدتها ومسار منهجها يأخذ هذه الصورة: كيف يوظف المقدس والرمز والدين والأساطير في توليد العنف الديني والتطرف الراديكالي المعاصر؟ وليس خفيا على العارفين ما ينطوي عليه هذا السؤال الكبير من تضاريس معقدة ومداخل شائكة حيث لا يتجاوز طموح مقالتنا هذه حدود الملامسة التأملية لموضوع سياسي اجتماعي خطير يحتاج إلى أنساق كبرى من الجهود والفعاليات الفكرية والسوسيولوجية التي يمكنها في نهاية المطاف أن ترسم حدود وأبعاد وديناميات هذه القضية الشائكة عبر دراسات علمية بعيدة المدى عميقة الأغوار، وذلك هو الحال حيث ما زال الباحثون يجدّون ويكدّون في البحث عن الكيفيات التي يتحول فيها المقدس الديني مذبحا دمويا طهريا يقدم فيها البشر قرابين لتروي التعطش الدموي لعتاة البشر من المتطرفين. العنف والدين
هل يمكن للدين أن يؤسس على العنف؟ وهل يمكن للعنف أن يشكل مطلبا للدين؟ هل يكون الدين عنيفا بطبيعته؟ أم هل يكون العنف من طبيعية دينية؟ أم هل يمكن للدين أن يكون عنيفا بطبيعته وأن يكون العنف في أصل الدين؟ أسئلة فلسفية وجيهة تطرح نفسها وباحثون كثر يحاولون تقديم الإجابة. ومهما يكن الأمر فالدين كما يعتقد أغلب البشر وكما توحي النصوص الكامنة في الكتب المقدسة يقوم على التسامح والسلام والمحبة. وإذا كانت تلك هي الحقيقية التي يدركها بسطاء الناس وتلك هي الحقيقة التي تفيض بها الكتب المقدسة فإن سؤالا وجيها يبقى يدور له عقل البشر لماذا يكون الدين عنيفا ولماذا يكون العنف دينيا؟ وما هي الكيفيات التي تفرض نفسها في عملية تشكل العنف الديني وانتشاره في العالم المعاصر.
لقد شكلت أحداث الحادي عشر من سبتمبر مفصلا تاريخيا من مفاصل العنف الديني والعنف السياسي المضاد في حياة المجتمعات الإنسانية؛ فعلى أثر التفجيرات الدامية الرهيبة التي شهدها العالم في الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، عكف عدد كبير من الباحثين وعلماء الاجتماع على تناول ظاهرة العنف الديني بالدراسة والتحليل والتنظير. ومع أهمية الحضور المكثف للعنف في الظاهرة الدينية فإن كثيرا من الباحثين يرفضون الإقرار بأن العنف كامن في جوهر الدين أو أن الدين عنيف بطبيعته، ومع ذلك فإن العنف الذي يمارس باسم الدين يترك انطباعات سلبية راسخة في تصورات وقناعات الصحفيين والسياسيين في الغرب والشرق، ومما لا ريب فيه أن هذا الانطباع السلبي يَرْسُخ بقوة في عقول وقلوب الملايين من البشر.
وهنا وانطلاقا من هذا المشهد الإنساني للعنف الديني يجرؤ تساؤل على أن ينطلق من عقاله: هل يعبر هذا التصور السلبي للعنف الديني عن ضخ إعلامية وهيمنة أيديولوجية؟ أم هو نتاج لحقيقة واقعية ملموسة؟ وبعبارة أخرى هل هناك من علاقة فعلية وجوهرية بين الدين في جوهره وبين العنف الديني الذي تمارسه الجماعات الدينية المتطرفة وتمارسه؟ أو هل يمكن للعلاقة بين الدين والعنف أن تكون مجرد إسقاطات إعلامية وفكرية ساذجة وغير موضوعية؟ والإجابة عن هذه الأسئلة ليست سهلة إن لم تكن معقدة أو شديدة التعقيد. تكاثر الجماعات الدينية:
ومن أجل مقاربة هذه المسائل يجب علينا أن نلقي نظرة معاصرة في طبيعة الظاهرة الدينية، فالظاهرة الدينية سيجد أنها تأخذ مسارات تطورية جديدة، حيث يشكل الدين يشكل ظاهرة اجتماعية ترتبط بالحياة وتعبر عن أكثر معاني الكينونة والوجود أنسنة وتساميا، ومع ذلك فإن التدين يتطور تدريجيا متجاوزا طبيعته الجمعية آخذا صورة فردنة شخصية، فلم يعد الدين مجرد تصورات تفرضها الكنيسة أو المؤسسات الدينية بل هو آخذ في التحول إلى تدين من طبيعة فردية على صورة موقف شخصي ورؤية ذاتية للفرد من الدين وإزاءه كما تبين كثير من الدراسات الجارية في هذا الميدان ولاسيما في المجتمعات الغربية المعاصرة.
ومهما يكن فكل فرد (في الغرب على الأقل) يمتلك اليوم رأيا خاصا وموقفا شخصيا من الدين والظاهرة الدينية، وبالتالي فإن علاقة الفرد بالمؤسسات الدينية تأخذ طابعا يتسم بالغموض والضبابية. فالكنائس الكبرى التقليدية تشهد تراجعا كبيرا في هيمنتها وسلطتها الدينية حيث يكون الولاء اليوم وبدرجة أكبر ولاءً أنويا (نسبة إلى الأنا) تفرضه معايير الحداثة المتقدمة ومقتضيات العيش في رحابها. ومع غياب التيارات الدينية الكبرى تشهد الساحة العصر ولادة جماعات دينية صغيرة متماسكة، كما يشهد العصر أيضا ولادة جماعات دينية كبرى على صورة حركات اجتماعية بروابط اجتماعية أقل تصلبا وتماسكا. ولكن السمة الغالبة لهذه الجماعات الدينية أنها اتخذت من العنف الديني والطائفي منهجا وطريقة ومذهبا.
فالجماعات الدينية الصغرى التي تتوالد بمتواليات هندسية لا تمثل الاتجاهات الكبرى للأديان الأساسية إن لم تناقضها، بل تطرح أفكارا وأيديولوجيات وتصورات ذات طبيعة سياسية واجتماعية، وهي أشبه في تكوينها واستراتيجياتها بالأحزاب السياسية التي تأخذ طابعا دينيا. ولكن هذه الجماعات أينما كانت تتميز بخصائص وسمات مشتركة من حيث ديناميات التكوين والأهداف والاستراتيجيات والمبادئ، وربما أكثر ما يجمع هذه الجماعات ويشكل القاسم المشترك بينها يكون في تبنيها للعنف أداة ومنهجا ووسيلة، ومن هنا وتأسيسا على هذه النزعة المشتركة غالبا ما يطلق على هذه الجماعات الجماعات المتطرفة وأحيانا الجماعات الإرهابية أو غير ذلك من التسميات المخضبة بطابع التمرد والعنف. ضد العلمانية:
تتميز الجماعات الدينية المغلقة برغبتها الكبيرة في مقاومة المجتمع العلماني، ومع ذلك فإن هذه الجماعات الدينية المتزمتة ليست واحدة متجانسة الهوية والتكوين، بل تتنوع في اتجاهاتها وتتناقض في أيديولوجياتها وأهدافها وغاياتها، وعلى الرغم من هذا التباين فإنها تتفق في أمر واحد هو إعلان الحرب ضد النزعة الإنسانية العلمانية بكل ما تنضوي عليه من قيم ديمقراطية وإنسانية. وتحت تأثير هذه العداوة المشتركة للعلمانية، فإن الجماعات المتزمتة والمتصلبة تتحالف فيما بينها وتعمل على تكوين شبكات قادرة على ممارسة التأثير السياسي والاجتماعي في داخل المجتمعات التي تتواجد فيها، وإعلان الحرب ضد مختلف التجليات المدنية والعلمانية والديمقراطية القائمة في هذه المجتمعات. وهي في سياق هذا الصراع ضد العلمانية تقوم بممارسة العنف وتأجيج الصراع، وتعمل على تحقيق استمرارية الصراع والعداء ضد المجتمع المدني وذلك من أجل بناء وتشكيل الهويات الدينية الأصولية.
وهذا يعني أن العنف الديني لا يشكل مجرد ممارسة بالنسبة لهذه الجماعات فحسب بل يشكل الأوكسجين الذي يجعلها قادرة على الحياة والوجود والاستمرار، فمن غير العنف تفقد هذه الجماعات مشروعية حضورها ووجودها، ومن هذا المنطلق يمكن القول أن العنف يشكل منطلق وجود هذه الجماعات ويشكل المناخ الذي فيه تحيا وتستمر لتواصل دورة وجودها واستمرار خصوبتها.
هناك من يعتقد اليوم مثل جيرجنسميير Juergensmeyer بأن العنف الإرهابي لا ينجم عن أيديولوجيا أصولية بقدر ما يكون تعبيرا عن تضافر عوامل جيوبولتيكية. فالشعور الديني لدى المتطرفين هو نوع من الأيديولوجيا المتمردة الناجمة عن غياب العدالة الاجتماعية؛ ويتضح اليوم تنامي أعداد الجماعات الدينية المتطرفة فعدد الجماعات الإرهابية الدينية قد تضاعف من 26 جماعة في عام 1994 إلى 49 جماعة بعد مرور عام واحد فقط أي في عام 1995، وهذا يؤشر على تنامي كبير للعنف المؤسس على الدين، ويرى جيرجنسميير -في سياق تحليله للعنف الديني – بأن هذا العنف ناجم عن إخفاق مظفر للحركات اليسارية والماركسية في العالم، كما يأتي ردة فعل واسعة ضد الاحتلال الأمريكي الذي يأخذ صورة جديدة للحروب الصليبية ضد المسلمين والإسلام. وقد أدى التركيز المعاصر على العنف الإسلامي إلى تغطية الصعود الكبير للأصولية الدينية في الولايات المتحدة الأمريكية والتقليل من شأنه وتبريره في الوقت نفسه حيث يعتقد كثير من الأمريكيين بأن حربهم ضد الأصوليات الإسلامية عادلة بالمعنى الديني والحضاري للكلمة، وقد أسس هذا التصور للعنف السياسي المضاد الذي تمارسه الدولة الاستبدادية والدول الديمقراطية حيث يمكن الإشارة في هذا الخصوص إلى السجون الأمريكية عبر العالم والقرصنة السياسية كما هو الحال في سجن أبو غريب وسجن غوانتاناما Guantanamo أو إلى عمليات التضييق على الحريات المدنية في الولايات المتحدة الأمريكية. وفي المقابل الإسلامي نجد رؤية وتصورا مضادا وعنفا مضادا أيضا، فغالبية المسلمين في العالم ترى بأن الاحتلال الأمريكي ما هو إلا صورة جديدة للحروب الصليبية ضد المسلمين والإسلام. وهذا الموقف الإسلامي المعرض للعنف والاحتلال الأمريكي يغذي الصعود الكبير للأصولية الدينية في الولايات المتحدة الأمريكية. الإرهاب المقدس:
لقد ساد في الآونة الأخيرة نوع من الإرهاب الفكري الديني الذي يفسر بشكل واسع بأسباب جيوبوليتيكية، ولكن هناك من يعتقد بأن العنف الديني يأخذ طابعا رمزيا أكثر منه عسكريا. ومن الواضح هنا بأن الإرهاب يعمل على نشر الخوف وبث الرعب وبناء أجواء هستيرية مخيفة في وسط الناس والعامة، وهذا الخوف الذي تثيره الجماعات الإرهابية يقوم على أساس من التهديد الرمزي بالدرجة الأولى، وفي هذا الخصوص يعلن كثير من الباحثين والمفكرين أن الجماعات الإرهابية الدينية لا تملك إمكانيات كافية من أجل مواصلة حروب واسعة أو شاملة بالمعنى العسكري، ولذلك فإنها تلجأ إلى حروبها الرمزية فتعمل على تدمير الرموز المعادية وتقوم بتصفيتها، حيث يتم استهداف المساجد والمباني والكنائس والمراكز الرمزية من أي نوع كانت. ومن الواضح أيضا أن العنف الرمزي الديني يباشر تأثيره الكبير في عملية الضبط الاجتماعي للأفراد والجماعات وأنه لا يمكن التقليل من أهميته أو الاستهانة به ولاسيما عندما يكون هذا العنف دينيا.
ومن المهم في هذا الصدد الإشارة إلى أعمال عالم الاجتماع الأمريكي سكوت Scott. الذي يقدم رؤية أكثر وضوحا للعنف الأصولي والديني. ووفقا لسكوت فإن المقدس يكون محايدا ولكن تفسير المقدس ليس كذلك في جوهر الأمر. إن تجاوب الفرد إزاء المقدس لا يمكن أن يكون إلا على نحو تناقضي. فالمجتمعات الدينية غالبا ما تلجأ إلى الدين لتفسير وقائع الحياة والتجارب الإنسانية التي تعيشها، وهي في سياق تجاربها تعتمد ثنائية السلام والعنف وتجسدهما في آن واحد. والكاتب في هذا الاتجاه يفند رؤية جيرجنسميير الذي يفسر العنف الديني بعوامل جغرافية سياسية (جيوبوليتيكية). فقدرة الدين على تحقيق النشوة الدينية، وإخراج المؤمن من ضغط الحياة اليومية وإكراهاتها يشكل منطلق كل عنف ديني. ففي مختلف الأديان يقود التدين الزهدي إلى نشوة التضحية بالنفس أو بالآخر وهذه سمة كارزمية مشتركة بين جميع الأديان تقريبا، ويمكن القول في هذا السياق بأن تجربة المقدس الدينية تجد نفسها في دائرة التناقض بين أمرين: بين التطرف من جهة والسلام من جهة أخرى. فالتطرف يقوم على استخدام العنف وهدفه تدمير العدو المفترض، وبالمقابل فإن السلام الديني يقوم على توظيف العنف في حلة رمزية وروحية: تقديم القربان.
وعندما يقوم الدين بإضفاء طابع القدسية على عملية النضال من أجل الاستقلال السياسي -أي عندما يريد أن يحقق استقلالا سياسيا على أساس المعتقد الديني – فإن الحركات العرقية والقومية تجد مبررها لتمارس العنف بدورها ضد الجماعات العرقية والقومية الأخرى. وهنا أيضا يمكن الكشف عن الطبيعة الثنائية للمقدس في طريقة الاستجابة الإنسانية، فالهوية الدينية يمكنها أن تقوم بممارسة وتوسيع دائرة الكراهية والأحقاد العرقية والقبلية في بعض المناطق، أو يمكنها أن تتحول إلى أداة لتجاوز هذه الوضعية إلى وضعية التكامل والتضامن.
فالمتطرفون يقومون بتوظيف الدين من أجل تبرير العنف وتقديسه، ومن أجل توليد التمييز بين الجماعات العرقية كما بين الإثنيات الثقافية واللغوية المختلفة. ولكن كيف يمكن تفسير لجوء بعض الأفراد الذين يتسمون بالطابع الأخلاقي إلى العنف؟ في سياق الإجابة عن هذا التساؤل يرى أبليبي Appleby بأن الأمية الدينية تشكل عاملا حيويا وبنيويا في عملية تنامي وتصاعد العنف الاجتماعي، ولاسيما في وضعيات الضغط والتأزم، وما يميز هذه الأمية أنها نتاج مستمر لانخفاض كبير في مستوى التفكير الذاتي الأخلاقي وانخفاض مستوى الثقافة الدينية نفسها. وهذا هو الأمر الذي دفع الحكومات الأوروبية إلى التدخل في عملية إعداد وتأهيل رجال الدين. وفي هذا السياق يبين أبليبي الدور الكبير للدين في تشكيل الهوية الفردية، ومع ذلك فهو يرفض أن يلصق صفة التطرف على مختلف التيارات الأصولية الأمريكية حيث يعتقد بأن هذه الجماعات الأصولية منفتحة على التكوينات الاجتماعية والثقافية للمجتمعات الغربية. ومع ذلك فإن الأصوليين يمكنهم دائما استخدام العنف اللفظي والرمزي والنفسي والسياسي ضد المجتمع العلماني ويمكن لهذا العنف أن يكون مؤثرا جدا كما هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية.
ويبدو لنا هنا أن أبليبي لا يأخذ بعين الاعتبار التعريف الذي يحدد الأصولية بوصفها عنفا ضد المجتمع العلماني، وبموجب هذا التعريف فإن هذه الحركات الأصولية الغربية متطرفة أيضا. ومهما يكن أمر العنف الفيزيائي فإن الجماعات الأصولية تشكل منطلقا حيويا لمختلف الاتجاهات الراديكالية المتطرفة في الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها كما تشكل في الوقت نفسه موّلدا حيويا للجماعات الطائفية المتطرفة.
لقد عرفت الإنسانية جماعات وحركات أصولية سلفية حاولت أن تترجم وجودها الاصطفائي الطهري (صفاء الأصل) بطريقة أيتوبية. ولكن وفي سياق العولمة الطاغية ليس في وسع أية ثقافة أو حضارة أن تبقى في أبراجها العاجية أو أن تكون خارج نطاق التأثير بالحضارات الإنسانية القائمة. فالصفاء العرقي أو الديني أو الحضاري ليس ممكنا أبدا ولم يكن عبر التاريخ، بل كان التفاعل والتواصل بين الكيانات الثقافية قائما وحتميا في رحاب الزمن. ومع ذلك يجب أن نلحظ أهمية المحافظة على معالم الهويات العرقية والثقافية دون الذوبان والتلاشي، إذ لم تستطع الثقافة الأمريكية أن تذّوب الثقافات الإثنية والعرقية في بوتقة واحدة. لقد قاومت بعض الجماعات العرقية إكراهات التذويب الثقافي والحضاري وحافظت على معالم وجودها وهوياتها المميزة، وتلك هي حالة الجماعات المكسيكية التي حافظت على كاثوليكيتها ولغتها وأصولها الإسبانية.
الإرهاب الرمزي:
مهما يكن العنف الديني ومهما تكن الصيغة التي يرتسم فيها فإنه منطلقاته الأولى تأخذ طابعا اجتماعيا-رمزيا . لقد بين كل من ويلمان Wellman وتوكينو Tokuno بأن تدمير الحواجز الرمزية يشكل منطلق الصراع بين الأفراد والجماعات. ويبين الباحثان في هذا المجال أنه من الطبيعي بالنسبة لجماعة دينية ما أن تشكل هويتها عبر الصراع والنزاع مع الجماعات الأخرى ومع المجتمع العلماني ذاته. ويرى الباحثان أيضا أن نجاح هذه الجماعات يعتمد على عملية تفجير هذا الصراع وإدارته والمحافظة على حضور التوتر واستمراره ضد الجماعات الأخرى والمجتمع المدني ككل، وهم يؤكدون بالتالي على أن العنف الديني ليس ظاهرة معاصرة بل هو واقع تاريخي يمتد عبر الزمن. وهذا الاتجاه الفكري يأخذ أهميته لكونه يركز على الدين بوصفه مشكلا للهوية الاجتماعية والفردية، ومن ثم فهو لا يقلل من أهمية الدور الذي يمارسه العنف الرمزي في عمق العنف الديني. وهذا الاتجاه يجد تعزيزا له في رأي كونيسا الذي يذهب إلى ما هو أبعد في التأكيد على مركزية العنف الرمزي في التكوين الأساسي للإرهاب الديني. وهو نوع من العنف يأخذ فيه الرمز أهمية أكبر من الهدف الاستراتيجي للعنف: فالعنف هنا يمارس بوصفه نوعا من التطهير، حيث يصعب تدمير العدو كليا في حرب شاملة، فتكون الحرب الإرهابية نوعا من العدوانية الرمزية الخالصة، وهدفها لا يكون مهما جدا من الناحية العسكرية. فالممارسة الإرهابية تمارس نوعا من الحرب الأخلاقية (الفوقية الروحية لمناضليها) والنفسية (تبين ضعف العدو وجبنه) ودينية (وعد بالجنة والعالم الآخر) ويلاحظ في هذا السياق أن الزمن الذي تمارس فيه هذه الحركات نشاطها الإرهابي غالبا ما يتم اختياره وفقا لمعايير رمزية تتوافق مع أجندات دينية وتواريخ مشبعة بالرموز الدينية الإستراتيجية .
فالعنف الرمزي يشكل جوهر العنف الديني الذي يأخذ طابعا طهريا تضحويا ولاسيما في الوقت الذي لا يمكن فيه التغلب على الخصوم الأقوياء بطريقة فيزيائية وهنا تبرز أهمية الحرب الرمزية التي تدور في عالم الرموز والدلالات والمعاني والإشارات. وتأسيسا على هذا المنطق فإن الإرهاب الديني لا يأخذ طابعا حربيا بالمعنى الدقيق للكلمة بل يتجلى في رمزية طهرية تضحوية تهدف إلى إضعاف الخصم وتدميره على نحو رمزي. فعلى سبيل المثال عندما تقوم جماعة دينية أصولية إسلامية بعمل تفجيري يذهب ضحيته بعض الأمريكيين وأعداد هائلة من المسلمين فإن الناس كثير من الناس يأخذون الحدث بطابعه الرمزي ويتملكهم شعور مزهو بالانتصار أو بالخوف، لأن سقوط جندي واحد أمريكي يرمز إلى سقوط أمريكا نفسها حتى وإن كانت مئات الضحايا من المسلمين الأبرياء، وهذا ما لاحظناه مع سقوط الأبراج الأمريكية في الحادي عشر من سبتمبر حيث كان ذلك رمزا لسقوط أمريكا والرأسمالية العالمية بالنسبة لملايين المقهورين في العالم العربي والإسلامي.
ولا يخفى اليوم على العارفين بأن العودة إلى عقيدة التضحية بالذات من أجل التطهير القدسي كان وما زال مظهرا من مظاهر الحياة الدينية وطقسا من أهم طقوسها في كثير من الأديان القديمة، وهذه التضحية تتم غالبا تحت متطلبات الضرورة الدينية التي تفرض الانخراط في حرب كونية مزعومة بين الشر والخير، بين الأنا والآخر، بين الدين والدنيا، بين الله والشيطان دون توقف حتى النهاية. وهذا يشكل اليوم جانبا جديدا من العنف الديني الذي يعزى إلى ثقافات دينية في سياق عولمة التبادل الاقتصادي والثقافي والاجتماعي.
فالهدف في العمليات التفجيرية والانتحارية ليس له أهمية عسكرية على الإطلاق بل تكمن هذه الأهمية في الجانب الرمزي والأخلاقي حيث يسعى العمل التدميري إلى استظهار التفوق الروحي بطابعه الرمزي ضد الخصوم والأعداء. ووفقا لهذا التصور يمكن النظر إلى عملية تدمير تماثيل بوذا في أفغانستان من قبل طالبان حيث لم يكن للهدف أية قيمة عسكرية إذ لم تكن هناك أية حرب مسلحة بين الإسلام والبوذية والعملية برمتها كانت نوعا من الحرب الرمزية ضد المقدسات البوذية وهي حرب مجانية لا طائل منها وكان هدفها كما ألمحنا نوعا من الاستعراض الرمزي للقوة والتفوق والهيمنة كما كان تعبيرا عن الهيمنة الطالبانية في المنطقة. وجلّ ما كانت الطالبانية تريد قوله أننا هنا ونحن نمتلك القوة وأننا لسنا ضعفاء بل أقويا وحاضرون وفاعلون.قرابين بشرية:
تعيدنا صورة القربان إلى مفهوم التضحية التي تأخذ صورة طهرية في مختلف الأنظمة العقائدية الدينية، وهي ترمز إلى الصراع الكوني الأشمل بين الخير والشر بين الأسود والأبيض بين النور والظلام، كما ترمز جوهريا إلى الصراع بين الأنا (الخير النور المحبة والسلام) من جهة وبين الآخر (الشر والظلام والفساد والأسود) من جهة أخرى. وهذا كله يدور في فلك من العنف الديني المقدس الذي ينجم عن الاحتكاك بين الثقافات والأديان في سياق تارخي.
يميز كونيسا Conesa بين ثلاثة أشكال من العنف الديني: الانتحار الجماعي الذي شهدنا فصوله في عدد كبير من الأحداث الجسام، والعمليات الانتحارية، ثم الإرهاب الديني. ولكن هذه الصيغة الثلاثية للعنف الديني تتكشف عن صيغ أدق من العنف المضمر أو الخفي (النفسي، والجنسي والشفوي، والاقتصادي) التي يمكنها أن تمارس ضد الأفراد والجماعات. وهذه الأنماط من العنف تشكل وضعية تمهيدية للعنف الفيزيائي وهو العنف الذي يشكل موضوعا مركزيا للتعريفات الكلاسيكية للعنف نفسه أو للإرهاب الديني ذاته. وهذا الصيغ الخفية من العنف تمارس في البداية على صورة ضبط اجتماعي رمزي للأفراد في المجتمع الديني المتصلب وهنا يؤكد كونيسا بأن هذه الجماعات الدينية والحركات المتزمتة تعتنق تصورات دينية تيولوجية مؤسسة على الأساطير خارج دائرة الكنيسة والمؤسسات الدينية القائمة. لقد وجدت الجماعات المتطرفة في الأساطير القديمة ما يؤسس لممارساتها التدميرية على نحو رمزي وقد عملت هذه الجماعات على إعادة تفسير هذه المنازع الأسطورية على نحو جديد واستطاعت أن تدمجها في النبضة الوجدانية للعقيدة الدينية وأن توظفها في إيقاظ العنف وفي تأجيج جمرته والاستناد إلى معطياتها في التأصيل للجماعات الأصولية المتطرفة. وهذا ما يعيدنا إلى سلوك المتطرفين الأصوليين حيث كان أبو مصعب الزرقاوي وغيره من المتطرفين يضحون بالجنود الأمريكيين بالطريقة نفسها التي تقدم فيها القرابين إلى السماء كما توحي الأساطير القديمة حيث يطاح برؤوسهم في المواسم والأعياد الدينية عبادة وتقربا وتطهرا. فالدين الإسلامي براء من هذه الأفكار الأسطورية للتضحية وهي مشاهد قربانية أصلها أساطير طهرية قديمة يقدم فيها البشر قرابين للآلهة حرقا وغرقا وقتلا وقطعا للرقاب. ومن المهم الإشارة إلى أن عددا كبيرا من الجماعات الدينية الإرهابية المتضاربة والمختلفة فيما بينها عقائديا وفكريا تتبنى هذه الأساطير وتقدرها وتسير على نهجها التطهيري. وهنا تقع أساطير الجماعات الدينية اليهودية المتطرفة التي تسيطر على مختلف القوى الاقتصادية في العالم وهي الأساطير نفسها التي تتبناها الجماعات الأصولية المتطرفة الكاثوليكية والإسلامية كما هو حال بعض الجماعات البروتستانتية.
المؤامرة:
ويضاف إلى هذه الصورة الأسطورية للعنف الطهري المقدس أن الجماعات المتطرفة تتبنى نسقا من المقولات التي توقد العنف وترسمه منهجا مقدسا ومنها نظرية المؤامرة (Théorie du complot) التي تستطيع أن تؤجج الحقد والكراهية ضد الآخر وأن تفعل فعلها السيكولوجي في التحريض على ممارسة العنف والإرهاب.
وهذه النظرية (نظرية المؤامرة) نجدها لدى الأصوليين الكاثوليك في الكوبك بكندا لدى تنظيم القبعات البيضاء Bérets Blancs كما نجدها لدى الجماعات الدينية الأمريكية المسيحية المتطرفة في الولايات المتحدة الأمريكية. ومهما يكن الأمر سواء بالنسبة إلى المؤمنين أو المتصلبين أو الملحدين أو الإنسانين العلمانيين أو بالنسبة للشيوعيين، فإن العنف هنا يصدر تحت عنوان الدفاع عن الهوية الدينية المهددة.
فالآخر كما ترسخ هذه النظرية يبدو دائما متآمرا يسعى إلى القتل والإبادة أما “نحن” فمستهدفون أبرياء معرضون للفناء والموت لأن الآخر يريد موتنا وقهرنا وإبادتنا. وقد لعبت هذه الفكرة الأيديولوجية دورا لا يمكن تصور خطورته في تأجيج العنف وتأليب الجماعات على تبني العنف المقدس في مواجهة الخطر الموهوم الداهم. وهذه النظرية “نظرية المؤامرة” تأخذ طابعا رمزيا يولد طاقة عنف رمزية تستهدف الآخر وتعمل على تدمير معانيه ورموزه. وهذه الصورة تسود في الثقافة الطائفية في البلدان العربية حيث دائما ما يقدم الآخر الطائفي على أنه عدو كامن خطر متلبس ينتظر لحظة ضعفنا وهو مستعد للانقضاض والقتل والتدمير في أية لحظة. وهنا يبدو الطابع الرمزي لهذه الرؤية التي تولد حالة من الهياج النفسي الجامح والخطر بين الأفراد والجماعات. فالقتل، قتل الآخر وتدميره، كراهية الآخر والتربص به يأخذ هنا طابع الدفاع عن النفس والوجود والكينونة ويصبح العنف مبررا ومشروعا ومقدسا ضد الآخر. وقد تكون هذه النظرية من أكثر نظرية العنف الإنساني خطورة وقدرة على الفتك والتدمير. فهذه النظرية تثير رهابا وتدفع إلى الإرهاب والقتل باسم الدين والمقدس. فالآخر وفقا لهذه النظرية شيطان يجب أن يقدم على المذابح قربانا للآلهة التي تمنحنا الرضا والهدوء والسكينة.
وهذه النظرية ” نظرية المؤامرة ” نجدها عند أغلب الجماعات الدينية المتطرفة التي تتبناها في نسق من الفعاليات التي تحشد للعنف والكراهية ولغة الموت في أية فرصة سانحة. نجد هذه النظرية لدى الجماعات المتطرفة الكاثوليكية واليهودية والإسلامية وغيرها من الجماعات التي تأخذ صبغة دينية متطرفة. ومهما يكن العدو المفترض لهذه الجماعات (الزنادقة والشيوعيون والعلمانيون والمتنورون وأبناء الأديان المشركون) فإن هذه الجماعات الدينية المتطرفة ترتدي شعار الهوية الدينية المهددة وتتبنى أيديولوجية العنف المقدس للحفاظ على الوجود والهوية. والسؤال هنا لماذا تشعر الجماعات الدينية كما هو حال الجماعات الدينية المتطرفة بأن الزواج المثلي (الهوموسيكسول) يهدد هويتهم على حدّ سواء؟ وهنا يبرز الطابع الرمزي لهذا السؤال الجوهري، فالجماعات المثلية (الهوموسيكسويل) لا تعير المؤسسات الدينية أو هذه المعنية بالزواج أية أهمية، ومع أن ذلك لا يهدد الجماعات الدينية ولا يقوض وجودها. وهنا تأخذ المسألة طابعا رمزيا فالصراع بين هذه الجماعات المنحرفة والجماعات الدينية صراع رمزي تريد عبره الجماعات الدينية أن تفرض حضورها وهيمنتها ووجودها وهويتها. دفاعات الهوية:
فالوقائع تشير إلى نمو وتعاظم الجماعات الدينية المتطرفة وهذا بذاته يشكل تحديا إنسانيا وحضاريا يواجه الإنسانية جمعاء، وليس أدل على ذلك من تنامي العنف والإرهاب في مختلف أرجاء المعمورة. وفي هذا السياق يرى كثير من الباحثين أن تنامي العنف الديني ونهضة الجماعات الدينية المتطرفة ناجم عن أوضاع اجتماعية تفقد فيها بعض الجماعات والفئات الاجتماعية حضورها وهويتها وتعاني من ضياع مصالحها ومن تعرضها للظلم الاجتماعي والقهر الاقتصادي، ويؤكد بعض الباحثين أن العنف الديني كان عبر التاريخ صورة من صور الدفاع عن الهوية وصيغة من صيغ المقاومة هدفها الحضور المظفر في دورة الحياة الإنسانية والاجتماعية، فالعنف الديني يشكل نوعا من النزعة إلى السيطرة والهيمنة حيث يكون تأكيد الهوية بالعنف والسيطرة والقوة. وبالتالي فإن هذه المقاومة وهذا التسلط الاجتماعي يأخذ طابعا رمزيا في مختلف الأزمنة والأمكنة. وهنا يجب علينا أن نحتسب بأن هذا العنف الرمزي يمتلك طاقة هائلة وأنه يتجلى على صورة وقائع وأحداث دامية، فالرمزية الدينية النازعة إلى العنف تدمي وتفتك وتدمر وترهب وتقض المضاجع، وليس أدل على ذلك من الرعب الكبير الذي تشهده مختلف الشعوب الإنسانية، وتكفي نظرة في دهاليز المطارات وأروقتها أن تعطيك صورة هذا الرعب الكبير والخوف المستطير الذي تزرعه هذه الجماعات في القلوب والنفوس والأفئدة. وقد لا ندرك اليوم طابع الحرب الخفية على الإرهاب الذي تعلنه الولايات المتحدة الأمريكية إلا عندما نبحث في المضامين الخفية لهذه الحرب إنها باختصار حرب الرموز حرب الدلالات والمعاني وقد تكون هي الحرب الأشد والأدهى التي تخوضها الإنسانية. فأنت لا تعرف أين وكيف ومتى تكون – أنت نفسك في أي زمان وأي مكان- وقودا لهذه الحرب التي تثير الرعب الذي يدمر القلوب ويدمي النفوس؛ إنها حرب رمزية متخفية مضمرة غابت شواهدها المادية في أغلب الأحيان وعندما تحضر تكون كارثية كالزلازل والبراكين التي نراها يوميا في العراق وباكستان والتي شاهدنا فصولها في كل مكان تقريبا. وليس أدل على هذا الطابع الرمزي لهذه الحرب الغير مرئية الشاملة من المعاني والدلالات والمفاهيم والتصورات التي تغذي نفوس المحاربين والمتطرفين الذي يدمرون ويدمرون دون توقف لأنهم في عطش دائم إلى الموت والقتل والفتك والتدمير. فالرموز الدينية توظف اليوم وقودا للنار والدم وتشكل قوة ما فوق طبيعية أو قوة روحية كونية تدفع أنصارها وضحاياهم إلى جحيم مستطير لا يبقي ولا يذر. فهذه الرموز تشكل ضغطا نفسيا قاهرا يدفع مريديها إلى أعمال القتل والتدمير للتطهر والتحرر وإرضاء الله بدفق من الدماء على المذابح الأسطورية المقدسة للإنسانية المعاصرة. ومهما يكن فإن العنف الديني كان دائما رهيبا مروعا في مختلف المراحل التاريخية وليس خافيا أنه قد حصد ملايين البشر في حروب مجنونة جرت أحداثها في مختلف أصقاع العالم في أوروبا وآسيا وأمريكيا باسم الدين والله والمقدس، حيث أخذت هذه الحروب صورة حروب مقدسة كالحروب الصليبية في الشرق العربي، وحروبا أهلية كالحرب الأهلية الدامية المرعبة والفتاكة التي دارت رحاها بين الكاثوليك والبروتستانت في القرن السادس عشر في أوروبا الغربية، أو حروبا طائفية، كالحرب القذرة التي دارت رحاها في لبنان وما زالت تدق طبولها في العراق وتشاد والنيجر. الخطر الإعلامي:
وهنا علينا أن ننتبه إلى الخطر الذي يمارسه الإعلام في مثل هذه الحروب الأصولية حيث تلعب وسائل الإعلام دور مستطيرا في هشيم الصراع الطائفي والديني. ومثال ذلك عندما أقدم بعض الجنود الأمريكيين في سجن غوانتينامو على تدنيس القرآن الكريم فإن وسائل الإعلام سرعان ما وجدت في هذا الحدث سبقا إعلاميا فبدأت بثا إعلاميا مدمرا ألهب مشاعر المسلمين في مختلف أنحاء الدنيا وأثارت نقمة وعدوانية كبيرة بين المسلمين والمسيحيين، وأثار موجة من النقمة والضغط النفسي لدى المسلمين في مختلف أنحاء العالم، وهذا الأمر ينسحب على مسألة الإساءة بالرسوم إلى النبي الكريم (صلى الله عليه وسلم) في الدانمارك، وقضية ” الآيات الشيطانية” التي أساء فيها سلمان رشدي إلى الرموز الإسلامية في بريطانيا. وفي كل هذه الأحداث وغيرها لعبت وسائل الإعلام دورا خطيرا في الترويج السيكولوجي والرمزي للعنف الديني. وكل هذه الوقائع المحزنة كانت تمثل نوعا من التغذية الرمزية الراجعة إعلاميا للعنف والعدوان والإرهاب الديني. ومن المنظور السيكولوجي لا أحد يعلم كيف أثرت هذه الأحداث وغيرها في نفوس الشباب. ونحن على ثقة بأن مثل هذه الأحداث تجيش عاجلا أو آجلا للعنف لدى الأجيال والأطفال ونحن لا نستطيع أن ندرك مختلف الكيفيات والنتائج التي تولها هذا الطابع الإعلامي لانتهاك الرموز الدينية. ففي الحياة هناك ما لا يحصى من الأحداث المحزنة التي تجري ضد الدين ورموزه ولكن تبقى هذه الفعاليات هامشية لا قيمة لها طالما بقيت في الظل بعيدة عن وسائل الإعلام، ولكنها تصبح خطرة ورمزية عندما يتبناها الإعلام ويروجها في أنحاء الدنيا. وإنه لمن الواضح تماما أن المتطرفين وحدهم يستفيدون من هذه الأحداث ويشبعونها بالرمزية الدينية، ومن ثم يوظفونها في استقطاب المتطوعين ويضحون بهم على مذابح المقدس الديني للإطاحة بأمن البشر وتفتيت أجسادهم. وإننا لعلى يقين بأن تنظيمات القاعدة تبتهج دائما لأي حدث رمزي من هذا النوع لاستقطاب المزيد من الأنصار والمؤيدين لزجهم في معارك مقدسة رمزية ضد العدو الحقيقي أو المفترض ومن ثم العمل على بث أوجاع الخوف والقلق والتأسيس لثقافة الموت ودورته الدامية التي لا ترحم.
ويمكن الإشارة في هذا المضمار إلى ثلاثة من ردود الأفعال التي تمارسها الجماعات الدينية المتشددة في مواجهة العالم العلماني: يمكن الانسحاب من الحياة الاجتماعية وقطع العلاقات كليا مع المجتمع العلماني ويأخذ هذا الشكل صورة (الجماعات الصوفية الدينية )، أو يمكن التغلغل في مختلف المراكز الاجتماعية من أجل الوصول إلى مواقع السلطة والنفوذ فيه من أجل تغيير الواقع والتأثير فيه مثل التحالف المسيحي اليميني في الولايات المتحدة الأمريكية Christian Coalition aux USA، أو يمكن مهاجمة المجتمع مباشرة والتركيز على الأصول والمرتكزات العلمانية للمجتمع المدني (تنظيم القاعدة ). خاتمة:
لقد أضاءت معالجتنا لمسألة العنف الديني في سياق الحداثة المتقدمة والعولمة الزاحفة صورة تصاعد الجماعات الإرهابية الدينية في العالم، وتصاعد هائل في ممارسة العنف، وقد تبين عبر هذا التداول للمسألة أن العنف الديني كان دائما وما زال موجودا وقائما وسيكون، وقد اتضح لنا أيضا بأن هذا العنف يأخذ اليوم صورة الدفاع عن الهوية الدينية وصونها، ومن البيّن أيضا أن هذا العنف يتشح بالطابع الرمزي في أكثر صوره فعالية وتأثيرا. لقد تمّ توظيف الرمز والأسطورة كقوة ما فوق طبيعية للتأثير في عقائد واتجاهات المنتسبين إلى هذه الجماعات الدينية لدفعهم إلى ممارسة العنف ضد الآخر بمختلف الصيغ والأدوات الممكنة، ومن الواضح بأن السلوك الديني المتشدد يمكنه أن يجري وفقا لصيغ متعددة من العنف الرمزي والسيكولوجي والاقتصادي والسياسي والفيزيائي. فالعنف كان موجودا دائما ولكننا اليوم على موعد مع عولمة العنف أو عنف العولمة حيث تلعب وسائل الميديا والاتصال دورا كبيرا في تدوير العنف وتعزيز حضوره. ومن الواضح هنا أن الأصوليين والمتطرفين يستفيدون بشكل جيد من وسائل الاتصال وتكنولوجيا المعلوماتية ويوظفون أدوات العولمة ذاتها في بث العنف ونشر ثقافة الخوف والموت في مختلف أنحاء المعمورة.
ويمكننا في النهاية القول بأن العنف الديني المعاصر يأخذ صورة معادلة معقدة أطرافها المقدس والأسطوري والرمزي والديني والسياسي، وبعبارة أخرى يشكل العنف الديني صورة لوحة إنسانية دامية مخيفة تتدفق فيها ألوان المقدس ويتعانق فيها الأسطوري بالرمزي لتشكل صورة مذبح إنساني ملطخ بدماء الأبرياء يقدم عليه البشر قرابين استرضاء للآلهة وهديا على الصراط المستقيم !!!!
المصدر: موقع تنوير