من السهولة بمكان رصد ظواهر منحرفة في الثورة السورية، فهذه الظواهر قد رافقت جل الثورات عبر التاريخ، ويمكن للمرء أن يضع هذه الظواهر بين قوسين؛ بغية التركيز عليها، وعدها صبغة للثورة، أو أن يعلقها؛ بغية إزاحتها عن مركز المشهد.
ولا يكلف المرء نفسه جهدً كبيرًا لمعرفة دوافع هذا الفاعل أو ذاك، فالظواهر تفهم فهمًا غير مباشر بتوسط دوافع الفاعل، وموسوعته المعرفية، وقدرته التأويلية؛ لأنها في آخر المطاف رموز بمستويات معان متفاوتة من حيث الظهور أو الخفاء.
لا شك أن كثيرًا من خصائص الحرب الأهلية قد صارت ملء السمع والبصر في الثورة السورية، وهو ما يجعل إمكانية مسخ جوهرها الثوري ممكنًا لمن أراد أن يمسخه، ولكن الاقتصار على تناول هذا الانحراف النسبي من ثورة إلى حرب أهلية يشي بضمور في الحس الثوري يحدثه نزوع نفعي.
إن من أهم ما يترافق مع النزاع المسلح؛ لكي يصنف بأنه حرب أهلية هو التصنيف التقويمي، والتحالف.
إن تصنيف الأفراد بحسب انتمائهم إلى الجماعات يمثل شرطًا ضروريًا، وغير كاف للتعصب، ولكنه يتحوَّل إلى تعصُّب إذا ارتبط ببعد تقويميّ لهذه الجماعة يقع على أحد قطبيه الأقصيين قيمة الخير بكلّ ما يندرج تحتها من صفات، وعلى القطب الآخر القيمة المضادَّة المتمثلة في قيمة الشّر، وما يندرج تحتها من صفات.
إن إحدى الظواهر التي لا نكلف أنفسنا مؤونة كبيرة في ملاحظتها في المأساة السورية هي ظاهرة التصنيف المقترن ببعد تقويمي، فقد ساهم تصدر الفاعل السلفي للمشهد في تغليب هذه الظاهرة، التي لا يمكن للثورة أن تحافظ على نبلها بوجودها؛ فهذا الفاعل لا يكتفي بالتصنيف، ولكنَّه يفرز بشكل قاطع الـ “نحن” عن الـ “هم” متَّخذًا من القطب الأوَّل موقعًا للمنتمين إلى الطَّائفة السُّنيَّة، ومن القطب المقابل من لا ينتمون إليها وفي مقدّمتهم من يطلق عليهم هذا الفاعل اسم “النّصيريّة”.
وإذا كان النظام وحلفاؤه الطائفيون لا يتورعون عن إظهار عنصر يتهم القبيحة؛ لأن الإناء بما فيه ينضح، فإن ضعف التيار الديمقراطي العلماني، هو ما ترك الباب مشرعًا للمحكومين بقيم ميتافيزيقية وأحقاد طائفية؛ لكي يسرقوا الضوء والمشهد.
كما ساهمت جرائم النظام في ثمانينيات القرن الماضي في فتح جرح لم يندمل، وهو ما أضاف إلى شعور الازدراء شعور الحقد، وهو حقد لا يعدم مبرراته الموضوعية.
كما أن إحدى لوازم الحرب الأهلية أيضًا هو لجوء الأطراف المتحاربة إلى التحالف مع قوى خارجية، فهو ينزع المركزية، ويعطي الصراع ميزة التوسع والعنف، ميزة البعدين الخاص والعام.
ليس صحيحًا أن صدعًا أساسيا في بنية المجتمع، تشتق منه أيديولوجيات يستثمرها فاعلون هو العلة لظاهرة الحرب الأهلية، فهذا الصدع يتفرع إلى صدوع فرعية كثيرة، لا يمكن إغفال دورها في نشوء الحرب الأهلية واستمرارها، فالعنف السياسي ليس سياسيًا بالضرورة، والأفعال والهويات لا يمكن اختزالها إلى قرارات تتخذها نخب.
كما أن هذا التحالف يشمل الأفعال الاستراتيجية التي يتخذها فاعلون سياسيون، والأفعال الانتهازية التي يتخذها فاعلون آخرون.
كما يسمح التحالف برؤية الحرب كمجموعة صدوع محلية متنوعة تتجمع حول الصدع الرئيس على مدارات متفاوتة المسافة.
إن الركون إلى الحلفاء، وإن كان فعلًا اضطراريًا، فإنه سمة من سمات الحرب الأهلية؛ ولأجل هذا فإن الاضطرار إليه في الثورة يجب أن يكون بقصدية الثائر التي تبادر على أساس علمي بدالة ما يتوخى الوصول إليه في ثورته، لا أن يكون تحالفًا منزوع الصلة بالأهداف البعيدة للثورة، ومقصودًا؛ لإضعاف الخصم فحسب.
إن ما ذكرناه يمكن أن يساعدنا في تجديد خطابنا، وجعله أكثر قدرة على توجيه مسار الثورة وجهة لا تذهب بها بعيدًا عن أهدافها، وفي المحافظة على جذوتها التي لا شك أنها تأبى أن تنطفئ، لأنها جذوة حق إنساني لا يمكن أن يزهقه باطل نظام استبدادي مسرف في غيه، وضلاله، وإصراره على سلب المستحقين حقوقهم في العيش بحرية وكرامة، وفي بناء دولتهم المدنية الديمقراطية التعددية.
ومن جهة أخرى فإن استثمار الظواهر المنحرفة في الثورة من جانب من كرسوا أحد أهم روائز الحرب الأهلية، وهو دينامية التحالف، والذين كانوا أدوات في أيدي حلفائهم زمنًا ليس بالقصير، لا يمكن أن يكون إلا استمرارًا في استغلال الثورة العظيمة، والمتاجرة بتضحيات أبنائها؛ لغايات نفعية، وإلا فأين كان مدّعو النقاء الثوري هؤلاء عندما سُرقت الثورة أمام أعينهم، وباستخدامهم كأدوات؟، ولماذا لم يدركوا منذ سنوات ما يجهرون بإدراكه اليوم لو لم تتغير الجهة التي يريدون بيعها خطابًا يستهويها؟
رئيس التحرير