من نافل القول إننا أصحاب ثقافة نصية تتمحور حول نص مقدس، وإن تراثنا يمتح من هذا النص كل ما أنتجه. وهو ما يعدّ أمراً غير معيب لأن للحضارات على اختلافها نقطة ارتكاز تشرف على كل نقاط الاستناد، فما بالك إذا كانت حضارة يشكّل الوحي المنزل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه -باعتقاد أهلها- مرجعيتها ونقطة ارتكازها.
المعضلة أن التعاطي مع هذا النص على أنه كلام مسطور بين دفّتي كتاب يجعل الدوران حوله دوراناً يجترّ القديم مصرّاً على أنه يكفي ممارسيه للمواكبة واجتراح الحلول للمشاكل المستجدّة.
فلا شك أن النص له بنيته التي تنطوي على قصدية، ولكنه لا ينتج حلولاً ما لم تؤخذ بالاعتبار مكوّناته الأخرى التي يشكّل مقام الخطاب وقصدية المؤلف وقصدية القارئ أركانه الأساسية الأخرى.
وهو يظلّ أداة صالحة للاستثمار المشبوه ما لم يتمّ الاعتراف بأنه يكف عن التفاعل مع الواقع ما لم تكن الموسوعة الثقافية للمشتغلين عليه هي الإطار الذي يفتحه على ممكناته الثريّة، والحقل التأويلي الذي يضبط حدود ما يمكن استيلاده من مستخرجات من رحمه.
قطعية الدلالة التي تنطوي عليها بعض عباراته وهي الأقلّ من مجموعه -حسب رأي عدد يعتدّ به من رواد تفسيره وتقنين استخراج معانيه- أصبحت فزّاعة يرفعها وكلا ء الحقيقة الحصريون من الإسلاميين والمتأسلمين لكي يغلقوا باب الجدل الخلاق الذي بمجرد ما ارتخى أحد طرفيه انغلق على دوغمائية استبدادية، وعلى ادعاء باحتكار الحقيقة يمثل أقسى انواع العنف الرمزي الذي يفرّخ العنف المادي.
ما يغيب عن أذهانهم أن النص بمكوناته العلائقية المشار إليها آنفاً يخترق الاحتمال كلّ مستويات أفعاله اللغوية ما عدا مستوى واحداً لا يمثل من حيث نسبته إلا النسبة الأقل من مجموعه، وهو مستوى النصّ أما الظاهر والمجمل والمؤول –بحسب تقسيم الأصوليين- فكلها مستويات تنطوي على احتمال يزيد وينقص بحسب كل مستوى.
أما قطعية الثبوت فهي وإن كانت ثابتة باعتقاد المسلمين في ما يتعلق بنصهم المقدس الأول، فهي لا تنسحب على النص النبوي الذي يمثل المرجعية المقدسة الثانية من حيث الترتيب لأن الصحيح منه ظنيّ الثبوت كائنا من كان راويه ومهما بلغ سنده من إشراق وخلوّ من القوادح والعلل.
ولأحد المجتهدين الكبار في خمسينيات القرن الماضي رأي في حادثة مروية في الصحاح فحواها أن جماعة من العرب أسلموا ثم ارتدوا وقتلوا الرسل الذين ابتعثهم النبي معهم لتعليمهم دينهم، فأمر النبي رهطاً من أصحابه بالإيقاع بهم وقتلهم عن طريق منع الماء عنهم في الصحراء وجعلهم يموتون عطشاً .
وهي رواية يناقشها ذلك المجتهد بالقول إن رحمة النبي معلومة بالضرورة وهي لا تنسجم مع تنفيذ عقوبة بهذه الوحشية، أما الحديث المروي في الصحاح فهو حديث منقول عن آحاد ولا يفيد القطع فمن الطبيعيّ، إذن، تغليب المعلوم بشكل قطعيّ على الظنيّ ولو روته كل الصحاح.
إن العنف الوحشي الذي تمارسه المجموعات المتطرفة، وبغض النظر عن ظروف سياسية واجتماعية ونفسية تتعاوره، له جذر في قطعيّة ثبوت مزعومة، وقطعيّة دلالة مفترضة يرفع العقيرة بها الإسلاميون على تنوع أطيافهم وليس ممارسو قطع الرؤوس فقط.
إن لمقصد مرسل النص أهمية تفوق أهمية أي من مكوناته الأخرى التي تنجدل معه في علاقة عضوية، وهذا المقصد متطابق مع مصالح الناس ودفع الضرر عنهم، وما إغفاله لحساب نوعي القطعية هذين إلا نوعاً من شغف بالتسلط يبحث صاحبه عن مصلحة شخصية لا تأبه لمصالح الناس.
إن تجديد الخطاب ممكن بدون فرض آليات مستوردة يقسر النص على التقولب فيها، وإنما بآليات من داخله وهو تجديد يقلب ظهر المجنّ على الذين يهوّلون على مناظريهم بقطعية الثبوت وقطعية الدلالة.
ليست داعش نبتاً بدون جذور استنبتها المؤدلجون الذين لا تمتّ دعواهم بالقطع والجذرية إلى أيّ منطق علمي، وهي لن تذوي إلا بقطع الماء عن جذورها بخلخلة قطعياتها، وكبت نهم أصحابها للتحكم برقاب البشر بادعاء شرعية زائفة.
رئيس التحرير