في الصورة التي يضع فيها ترامب يده على موضع العفة للفتاة التي تقف إلى جانبه وهو يأخذ صورة في الشارع، بينما يقدم خطابًا مفعمًا بالانتقاص من قيمة المرأة في حملته الانتخابية، وعدا عن الإسفاف الأخلاقي المثير للاشمئزاز في الصورة، فإن للصورة دلالة على اختزال لهذا الكائن في جزء من جسده، يمكن أن يكون عاملًا تفسيريًا للخطاب السياسي الذي تفوح منه رائحة العنصرية الكريهة ضده.
وليس الأستغراب من فوزه في الانتخابات إلا تعبيراً عن جهل بديناميات جديدة تعتمل في المجتمع الأمريكي الذي يبدو أنه قد سئم القشرة التحررية ذات الصبغة الإنسانية، التي ناء بحملها كاهله، وكانت سببًا في فصام بين المزاج الأمريكي الأصلي، وبين ما تتطلبه هذه القشرة من ممارسات لا تنسجم مع ذلك المزاج.
فهذا المزاج الذي كان العاملان الأصليان في صوغه الرحلة الطويلة الشاقة إلى العالم الجديد، والمواجهة القاسية الدامية مع السكان الأصليين التي انتهت بعملية إبادة وحشية للهنود الحمر، قد صنع فردًا مغرقًا في فردانيته، لا يأبه إلا لمصلحته، ويتملّكه شغف بالسيادة على الآخرين، بغض النظر عن الوسائل المفضية إلى ذلك.
ولعل المتابعين للنظريات التي ازدهرت في أمريكا يعلمون أن فلسفة جاك دريدا التفكيكية التي يسقط المعنى صريع فوضى التفاسير وفق آليتها، لم تجد رواجًا في موطنها الأصلي بقدر ما وجدته في أمريكا، فأنْ يصبح كلُّ قارئ كاتبًا جديدًا للنص تجاوب مع الروح الفردية المتطرفة، وتلبية لشغفها بصنع المعنى بحسب ما تشتهي.
ليس ترامب إلا الأنموذج الذي يمثل الأصل الذي أرهقت وجهه قترة- في منظور الأمريكيين- فهم شعب أخذت لديه الحداثة شكلًا مصبوغًا بصبغة دينية محافظة، يكمن في جذرها فردانية متطرفة تفسر ما ينخر في جسد هذا المجتمع من أمراض العنصرية ضد الآخر من أسود أو لاتيني، أو مسلم، ولا يستطيع بسبب تدينه أن يكابر في نظرته للمرأة إلا مكابرة لا تلبث أن ينكشف أمرها مهما تطاول زمنها.
ولكن وجه الشبه بين ترامب وبين داعش يمكن التقاطه بسهولة، فعلى الرغم من أن التطرف الداعشي قسر للواقع على ما لا يطيقه، وهو مسبب عن عوامل أخرى جد مختلفة، مرتبط بخصوصية المجتمع الذي ظهر فيه، فإن للدلالة المسطورة في أول النص المستخلصة من صورة ترامب مع الفتاة ما يشبهها في علاقة الفكر الداعشي بالمرأة -إذا صح تسميته فكرًا- فالعلاقة المتوترة مع المرأة التي تصل إلى حد قتلها رجمًا إذا ارتكبت جريمة شرف من دون توخي الحكم الشرعي الصحيح، تعبير أيضًا عن ضعف تجاهها سببه سحب الغريزة الجنسية التي تحكم علاقة الفرد المتطرف بالمرأة.
وهي علاقة بحكم انئسارها بالبعد الغريزي لا يمكن أن تفرز إلا حطًا من قيمتها كإنسان.
وكذلك هو الاستعلاء على الآخر منطلقًا من الفردية في حال ترامب، ومن ظن احتكار وكالة الله على الأرض في حال داعش، وجه شبه آخر.
سيكون من الطبيعي أن يركز الرئيس الأمريكي على محاربة التطرف الإسلامي؛ لأن تطرفه لا يطيق وجود تطرف آخر يزاحمه، وهو في سبيل ذلك يمكن أن يعقد صلة شراكة مع الروسي الذي يعبر -بواسطة سياسة بوتين- عن تطرف آخر، ولكنه تطرف يوقن ترامب أنه لا يمكن أن يكون إلا شريكًا أصغر، وليس ندًا مهما سرح الخيال بأصحابه، ونظن أن ترامب سيكبحه بعد الانتهاء من حربه على الإرهاب.
يبدو أن ما اقترفته أيدينا من أخطاء تصل إلى حدود الخطايا بترك الفسحة لهذا السرطان الداعشي بالانتشار في جسد مجتمعنا، وبتعويلنا الساذج على مساعدة الأمريكي على مدار السنوات الماضية سيكون ثمنه باهظًا؛ فقد ساهم صنعنا للتطرف بشكل غير مباشر في تحالف متطرفين ضده على أرضنا، وعلى حساب أهدافنا، ولن يكون القضاء عليه بأيدي غيرنا بأقل ضررًا لنا من تركه يتمطى على أشلائنا.
تستطيع المؤسسات الراسخة في أمريكا؛ بحكم ما تملكه من قدرة أن تُخسر ترامب شيئًا من قدرته في سياساته في بلده، ولكنّ ما خسرناه من قدرة بتواكلنا وتخندقنا سيكون عجزًا يضيف إلى قدرته، وهو يتوجه لمحاربة التطرف في بلادنا.
ربما كان ما نظنه اعتدالًا تطرفًا في هذا الاعتدال؛ وهو ما أحاله إلى عجز في مواجهة المتطرفين الصرحاء.
فليس الاعتدال خطابًا متزلفًا اعتذاريًا فحسب، وإنما هو وسطية تؤتي أكلًا باجتراح أدوات لانتهاج سبل المواجهة مع التطرف.
أصبحت إعادة النظر في الأدوات الصدئة التي نملك ضرورة وجودية في ظلّ هيمنة التطرف على العالم، وإلا فإن الانقراض مصيرنا، وقد حدث مثل ذلك في التاريخ.
رئيس التحرير