من لبنان الى سوريا، ومن اليمن الى العراق وليبيا، لم تعد هناك حلول ممكنة للأزمات المستعصية إلا بتسويات بين القوى المتدخّلة، لكن هذه التسويات تبدو بدورها مستعصية، لذا يُصار الى تأجيل المساومات في شأنها.
الحال اللبنانية تبدو مستجدّة مع الدخول الفرنسي ثم الأميركي الى المشهد، لكنها كانت قائمة ومعقّدة وزادت تعقيداً، لأن القوى الخارجية المعنية بلبنان تركته ينتقل من مستنقع وصاية النظام السوري ليرسب في مستنقع وصاية النظام الإيراني. لا شك أن الفصل الحالي من الأزمة بدأ باغتيال رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري وإخراج قوات النظام السوري من لبنان، وكما بدا هذا الاغتيال وارتداداته فاصلاً بين مرحلتين كذلك بدت حرب صيف 2006 وما نتج عنها من دمار عمراني وسياسي، وما تبعها من استباحة بيروت (7 أيار/ مايو 2008)، كأنها إرساء متدرّج لـ “نظام حزب الله”. وأخيراً، تبدو كارثة انفجار المرفأ، عشية الإعلان عن حكم المحكمة الدولية في جريمة اغتيال الحريري ورفاقه، كأنها إيذان بنهاية ذلك “النظام” لأن “الحزب” لا يملك سوى سلاحه غير الشرعي الذي صادر به إرادة القوى السياسية وحمى فسادها وشاركها الفساد، إلا أنه لا يملك ولن يملك حلولاً لأزمة شاملة كان “الحزب” نفسه سبباً رئيسياً فيها.
عودة الحركة الدولية الى لبنان، إغاثياً وبالأخصّ سياسياً، أنذرت طهران بأن ثمة مؤشرات الى أفول “نظامها”، فالدور الأميركي – الفرنسي لا يستند فقط الى رغبة في التدخّل بل الى قدرة اقتصادية على نقل البلد من الوضع المأسوي، وتحديداً قبول شعبي واضح لأي تدخّل انقاذي. أما مسارعة وزير الخارجية الإيراني الى بيروت فلم يكن متوقّعاً أن تحمل أي بُعد انقاذي عاجل أو طويل الأمد، جاء فقط لطمأنة قيادة “حزب الله” وتشجيع الرئيس اللبناني والحلفاء ء على عدم فقدان الثقة في “الحزب”. الى أي حدّ نجح في مهمته؟ عدا ما يتردّد عن المرشد علي خامنئي قرر مؤازرة “الحزب” بمبلغ مالي من صندوقه الخاص، كان واضحاً أن كلام حسن نصرالله بعد الكارثة اختلف بعد زيارة محمد جواد ظريف، فعاد الى لغة التهديد والاشتراط، بعدما تأكّد من وجهة التحقيق المحلي، واستأنف الوصفات العقيمة التي صنعت الأزمة ثم الكارثة. لكن الأهم أن تزامن وجود ظريف ومساعد وزير الخارجية الأميركي ديفيد هيل في بيروت أراده الإيراني رسالة الى القوى الدولية بأن القناة الوحيدة للبحث في الشأن اللبناني تمرّ عبر نصر الله أو عبر طهران.
حصل نصرالله عملياً على أمر من وليّه الفقيه بالتشدّد، فكارثة المرفأ ليست الأولى ولا الأخيرة في مسار التدخّل الإيراني، وأوجاع اللبنانيين تبقى أبعد من تشكيل ثورة على “نظام حزب الله” طالما أنه قادرٌ على إرهاب خصومه وقابض على المؤسسات “الدستورية” ومانعٌ لأي اختراق عبر “حكومة محايدة” أو “حكومة مستقلّين” بصلاحيات استثنائية. وبالتالي لا مجال للضعف أمام هول الكارثة أو لتسويات “هامشية” لا تحقّق لطهران أي مكسب في مرحلة العمل لإخراج دونالد ترامب من البيت الأبيض. لذلك فإن أي “تغيير” كبير أو جذري تطالب به اميركا وفرنسا لمقاربة الأزمة اللبنانية يبدو كأنه محاولة لتغيير النظام الإيراني نفسه. طبعاً لا تمانع طهران أن تتدفّق الأموال الى لبنان، لكن بشروط “حزب الله”، رغم علمها بأن أي أموال لإعادة إعمار المرفأ شرطها الأساسي حرمان “الحزب” نهائياً من العودة الى العبث في هذا المرفأ، وكذلك خروج “الحزب” من المطار وجدّية الدولة في السيطرة على كل المعابر والمنافذ الحدودية.
هل يعني ذلك شيئاً آخر غير أن وجود لبنان في “المحور الإيراني” يشكّل عقبةً أمام إنقاذه، وأن المحور الدولي ليس قادراً على فرض ارادته بل انه لا يستطيع ولا يرغب في “تقاسم نفوذ” مع ايران، بدليل أن تجربة كهذه أخفقت في العراق حيث تناوئ الميليشيات الدولة وتمنع بالقوة أي محاولة لإنهاضها، بل إنها تتكالب الآن على التموّل من المال العام بعدما قلّصت العقوبات الاميركية الدعم الإيراني لها. مع ذلك ثمّة محاولة يساندها العراقيون وتخوضها حكومة مصطفى الكاظمي لاختراق الاستعصاء والنأي عن صراع المحاور. أما في لبنان فليس مؤكّداً أن في الإمكان تشكيل حكومة يساندها اللبنانيون لتخرج الأزمة الاقتصادية من صراع المحاور، لأن منظومة السلطة موجودة لخدمة هذا الصراع.
رغم الفوارق هناك تشابه قائم مع أزمات سوريا واليمن وليبيا، سواء أكانت روسيا الطرف الدولي، أم ايران أو تركيا أو اسرائيل الأطراف الإقليمية المعرقلة للحلول. فحيث يكون التوافق الأميركي – الروسي مطلوباً وممكناً، تحول الشروط والمصالح دون تطبيقه. إذ لا تكتفي موسكو بالاعتراف الأميركي بمصالحها ودورها في سوريا، بل تريد أموالاً غربية وعربية لإعادة الإعمار، وتريد أيضاً تنازلات غربية في ملفات أخرى كأوكرانيا، من دون أن تتخلّى عن وصيفها الايراني. وحيث يكون التنافر الأميركي – الروسي غالباً، كما في ليبيا، تستعين واشنطن بتركيا لتأجيج الصراع وتوسيعه فضلاً عن تعقيد الحلول. وأخيراً، حيث يكون الصراع منسياً دولياً، كما في اليمن، فإن انتظار مبادرات ايجابية من حوثيّي ايران كانتظار أن يعرض “حزب الله” تسليم أسلحته للانضواء في الجيش اللبناني.
المصدر النهار العربي