صبحي حديدي
استفاقت أوروبا، عبر تمثيل ألماني في الواجهة، على مآزق ليبيا السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، المحلية والإقليمية؛ وكذلك على فصل جديد من “اللعبة الكبرى”، القديمة والعالمية والجيو ــ سياسية بامتياز، التي دارت في هذه المنطقة من العالم مراراً وتكراراً، وتدور اليوم متخذة صيغة صراع بين نصف دزينة من الدول، شرقاً وغرباً.
بيد أنها ليست استفاقة متأخرة فقط، أشبه بصحوة من غيبوبة دامت تسع سنوات أعقبت سقوط نظام معمر القذافي، فحسب؛ بل هي، قبلئذ وجوهرياً، وصولُ متطفلٍ متأخر مفلس، إلى مشهد دموي معقد؛ يختلط فيه الحابل بالنابل، وتتناطح على امتلاك أوراق التحكّم فيه قوى كبرى وصغرى، أصيلة عن نفسها أو وكيلة للأعلى منها، وتُزجّ على أرضه وفي سمائه أسلحة من كلّ طراز فتاك، ويتدفق إليه مرتزقة ومقاتلون مأجورون من كلّ حدب وصوب. وفي غمرة هذا الاحتشاد، ثمة مأساة إنسانية يومية يعيشها الليبيون المدنيون الذين دفعوا ثمن التحرّر من استبداد واضح، ليقعوا تحت نير استبدادات أخرى كثيرة ومتعددة الأقنعة.
وليس عسيراً التكهن بأسباب هذه الصحوة الأوروبية على الملفّ الليبي، إذْ ثمة بلد يرقد ترابه على ثروة نفطية هائلة، مستكشَفة لتوّها وكامنة؛ وخراب عمرانه، خلال سنوات ما بعد القذافي، يعد بمليارات ومليارات من عقود إعادة البناء والاستثمار؛ وصحراؤه الشاسعة الواسعة تُنذر بتهديدَين متلازمين لا قبل لأوروبا باحتمال عواقبهما: استيطان فصائل الجهاديين، وعبور أفواج اللاجئين. لكنّ هذه المعطيات كانت واضحة وجلية طوال الوقت، والمشير خليفة حفتر يتابع هجماته على العاصمة طرابلس منذ تسعة أشهر بدعم متعدد الأطراف، وبغمزة صريحة من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب شخصياً؛ فما الذي دفع أوروبا إلى التحرّك، الآن تحديداً؟
سبب أوّل، هو اتفاقية التعاون التي وقعتها تركيا مع حكومة “الوفاق الوطني” الليبية، ومنحت أنقرة امتيازات اقتصادية وجيو ــ سياسية واستثمارية ونفطية بالغة السخاء، أسفرت أيضاً عن دخول أنقرة طرفاً عسكرياً على الأرض، سواء عبر الجيش النظامي التركي، أو عبر مقاتلين مرتزقة من فصائل سورية كانت أصلاً تعمل بإمرة تركية في الشمال السوري. السبب الثاني هو دخول موسكو، هذه المرّة، إلى المشهد المعقد عبر مرتزقة “فاغنر”، الذين لا يعملون البتة من دون ترخيص الكرملين؛ حيث شاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، مثلما شاء نظيره التركي رجب طيب أردوغان، استعادة طعم كعكة مجزية سبق أن تذوقتها موسكو وأنقرة في حقبة ماضية لم يمرّ عليها الزمن!
صحيح أنّ التناقض فاضح بين تدخّل عسكري تركي لصالح حكومة “الوفاق”، وتدخّل عسكري روسي لصالح حفتر، الأمر الذي قد يضع الطرفين في مواجهة قتالية مباشرة؛ ولكنّ لقاء موسكو الذي انعقد بمبادرة من أردوغان وبوتين، وكاد أن يجبر حفتر على توقيع اتفاق لا يُرضي رعاته الإقليميين لولا أنه غادر لا يلوي على شيء، كان جرس الإنذار الأكثر قرعاً في آذان أوروبا، ألمانيا وإيطاليا واليونان تحديداً، قبل فرنسا مثلاً. وكانت أمثولة الجرس تقول ببساطة: المتوسط والثروات والاستثمارات والمحاسن والمساوئ الجيو ــ سياسية جمعاء باتت، عبر البوابة الليبية، رهن تفاهمات بوتين وأردوغان؛ وكانت، إلى هذا، تذكّر بأنّ اللذَين تفاهما في سوريا، رغم وقوفهما على طرفَيْ نقيض، يمكن أن يتفاهما في ليبيا، بل بالأحرى: تفاهما، وقُضي الأمر!
المرء، مع ذلك، يأمل في أنّ وصول أوروبا على هيئة مشارك متأخر مفلس، خير من استمرارها في التغيّب، أو عدم وصولها نهائياً؛ حتى إذا كانت المعطيات تقول إنّ مؤتمر برلين لن يكون سوى المحفل/ القناع للقاء موسكو، وأنّ ما تمنّع حفتر على توقيعه هناك، سوف يجده على الطاولة هنا. ذلك لأنّ الأجراس لا تُقرع لأهل البلد الليبيين، ولا حتى للأوصياء عليهم ومزيّفيْ إرادتهم من أبناء جلدتهم، بل هي للأسف أجراس لا تقرعها إلا أيدي مدراء اللعبة الكبرى!