دياب سرية
تختَزِلُ سجونُ الاعتقال السياسي في سوريا، من تدمر إلى صيدنايا مروراً بالمزة وعدرا، أسلوبَ نظام الأسد في الحكم، إذ تُرتكب فيها جرائم بحق معتقلين لا يملكون شيئاً يدافعون به عن أنفسهم وكراماتهم أمام آلة التعذيب والتنكيل الممنهجة سوى الدعاء إلى الله أن يخفّف عذابهم ويُحسن خاتمتهم ويفرّج عنهم ذلك الكرب العظيم.
كان للاعتقال السياسي دور في تشكيل المجتمع السوري ثقافياً وسياسياً وفكرياً، والمتابعُ لمجريات الثورة في سوريا، أو «الحرب الاهلية» -كما يحلو للمجتمع الدولي أن يسميها- يدرك بشكل أو بآخر أن السجون لها دور بارز في الحرب بين السلطة والمجتمع المنتفض. وربما كان أحد أبرز هذه السجون هو سجن صيدنايا، ليس لأنه أسوأ مكان على وجه الأرض، ترتكب خلف أبوابه المقفلة جرائم ضد الإنسانية، ويموت الناس جوعاً أو تحت التعذيب الممنهج أو بسبب عدم العناية الصحية، بل لأن هذا السجن كان له دورٌ في رسم خريطة الصراع الذي نعيشه منذ سنوات، إذ أن معظم قادة الكتائب الإسلامية «المعتدلة والمتطرفة»، التي تقود العمل المسلح ضد نظام الحكم، كانوا قد أمضوا سنواتٍ من عمرهم في هذا السجن، على خلفية انتمائهم للتيار السلفي أو إقدامهم على أعمال جهادية في العراق أو غيره.
كُتِبَت نصوصٌ ومقالات كثيرة عن سجن صيدنايا ومجزرته الشهيرة، وعن قادة العمل الجهادي في سوريا اليوم، وعن فترة سجنهم فيه ثم إطلاق سراحهم مع بداية الثورة السورية عبر مرسوم إنهاء حالة الطوارئ وما تبعه من إغلاق لمحكمة أمن الدولة العليا، وتحويل القضايا المنظورة فيها إلى القضاء المدني. وإطلاق العفو الرئاسي الشهير في منتصف شهر حزيران 2011، الذي تم بموجبه إخلاء سبيل العديد من المعتقلين على خلفيات جهادية.
ولأنني كنت واحداً من المعتقلين في صيدنايا، وقضيت فيه خمس سنوات من عمري انتهت مع بداية الثورة السورية في 18 آذار 2011، فقد أتيحت لي فرصة نادرة لمعرفة كيف تتم صناعة التطرف الديني داخل السجون، وكيف تتم الاستفادة من ذلك في وقت لاحق.
قالت التقارير والمواد الصحفية والوثائقية المشار إليها جزءاً من الحقيقة، لكنها لم تقلها كاملة. ولا نتهم أحداً بالتزييف أو التحريف هنا، لكن الأمر يحتاج إلى أبحاث معمقة تغوص في تاريخ سوريا القريب، تحديداً منذ اعتداءات 11 أيلول في الولايات المتحدة الأميركية، التي غيّرت وجه العالم.
بدأت في ذلك التاريخ حربٌ جديدةٌ قادتها الولايات المتحدة على التطرف الإسلامي، الذي أصبح مرادفاً للإرهاب، وبدأ العالم ينقسم إلى محورين: محور الخير الذي تتزعمه الولايات المتحدة ويضم الدول الغربية والدول السائرة في فلكها، ومحور الشر الذي ضم كوريا الشمالية وكوبا وإيران والعراق وسوريا. ولا نريد الغوص في هذا الموضوع هنا، غير أنه لا بد من ذكره كي يستقيم مسار الأحداث في أذهان القراء.
معركةٌ أخرى جديدة انطلقت في سوريا آنذاك، تتماشى مع الركب العالمي الجديد، لسان حال النظام فيها يقول إن سوريا عانت من الإرهاب في الماضي، وتعاني منه اليوم، وإن ما جرى في الولايات المتحدة كانت سوريا قد خبرته وجربته في ثمانينيات القرن الماضي.
هذا كان كلام أهل السياسة في النظام يومها، أما المخابرات السورية فقد بدأت إعداد نفسها لتجهيز هذا العدو المفترض وتقديمه إلى الجمهور السوري، ومن ثم المجتمع الدولي، لتثبت صدق أهل السلطة في سوريا. من هنا تبدأ قصتنا مع صناعة التطرف الديني.
لم تعرف سوريا عبر تاريخها حركات سلفية، ولم تكن يوماً مركزاً للإسلام الجهادي العابر للحدود. صحيحٌ أن هناك قادةً بارزين في تنظيم القاعدة من سوريا، مثل مصطفى ست مريم «أبو مصعب السوري»، أكبر منظر عقائدي ومهندس استراتيجي لتنظيم القاعدة؛ ومحمد عادل الزمار «أبو حيدر»، زعيم خلية هامبورغ المسؤولة عن تجنيد محمد عطا ورمزي بن الشيبة، منفذَي هجمات 11 أيلول في الولايات المتحدة. لكن ينبغي القول إن كلا الرجلين تركا سوريا في ثمانينيات القرن الماضي على خلفية صدمات نظام الحكم مع الطليعة المقاتلة في حركة الإخوان المسلمين، وانخرطوا في الجهاد الأفغاني ضد السوفييت.
كان الإسلام في سوريا إسلاماً معتدلاً صوفيَ التوجه تاريخياً، لم يعرف الغلو أو الحركات الدينية الراديكالية، ولا يمكن القول إن الطليعة المقاتلة كانت حالة تمثيلية واسعة ضمن المسلمين السوريين السنّة.
الأمر الآخر يتمثل في القبضة الأمنية الشديدة التي يفرضها النظام على المجتمع، التي لا تتيح لأحدٍ التعبير عن نفسه خارج الأطر التي ترسمها الدولة. كل شيء في سوريا مرسوم بدقة، بما في ذلك المؤسسة الدينية، التي كانت دوماً قريبة لأهل الحكم منذ أيام السلطنة العثمانية.
خلال الفترة اللاحقة لأحداث 11 أيلول ودخول أمريكا إلى أفغانستان لمحاربة تنظيم القاعدة، بدأت مخابرات النظام السوري العمل على نشر الفكر الجهادي بين صفوف الشباب، وبدأ خطباء المساجد بحثِّ الشباب على الجهاد في سبيل الله «دفاعاً عن الإسلام، وصوناً لأعراض المسلمين في فلسطين وغيرها من البلدان». أبرز مثال على هؤلاء المشايخ هو محمود قول أغاسي «أبو القعقاع». هذا الرجل الذي سوف يكون له الدور المفتاحي في الدعوة للحركة الجهادية السورية لاحقاً.
انطلق أبو القعقاع في دعوته الجهادية من مسجد العلاء بحي الصاخور في مدينة حلب، كانت خطبه الحماسية، التي ترافقت مع الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2001 واستفحال الحصار الاقتصادي على العراق، تلهب مشاعر المصلين في المسجد وتحثُّ الشباب على الجهاد في سبيل الله «نصرة لإخواننا المستضعفين في فلسطين والعراق».
كان أبو القعقاع يمتلك قدرة خطابية عالية، وعنده معرفة كبيرة في تفسير القرآن الكريم، حافظ للسنة النبوية وسيرة الخلفاء الراشدين. يملك الوسائل الكافية للإقناع والوصول إلى القلب، حجته قوية وأدلته الشرعية محكمة. كان مثالاً لرجل الدين الشاب الثائر على الظلم والاستبداد، بالإضافة إلى أنه يضع رفع الظلم عن المستضعفين نُصبَ عينيه.
استطاع أبو القعقاع استقطاب الشباب حوله خلال مدة قصيرة جداً، وبعد إعلان الولايات المتحدة الحرب على «الإرهاب» انتقل أبو القعقاع من القضية الفلسطينية إلى مرحلة تبني الجهاد العالمي، فسعى إلى تكوين علاقات خارجية مع الحركات الجهادية الكبرى بغية الحصول على الشرعية المطلوبة، وكان قد أعلن عزمه السفر إلى أفغانستان لمقابلة أسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة آنذاك لكنه فشل في مسعاه. توجه بعدها إلى المملكة العربية السعودية وقطر لمقابلة منظري السلفية والوهابية هناك.
لعل شهادةً قالها أمامي محمد الدردار «أبو الطيب»، تكون مهمة في هذا السياق. والدردار فلسطينيٌ سوري، درس الهندسة المدنية في جامعة دمشق وتخرج عام 1997. سافر بعد ذلك إلى كندا وأقام فيها مدة من الزمن، قبل أن يعود إلى سوريا في العام 2004 بعد أن اشتبهت السلطات الكندية بانتسابه لتنظيم القاعدة، وبأنه أحد المتورطين في عملية تعطيل محطة كهرباء في كندا العام 2003، في حادثة شهيرة أغرقت شمال أمريكا وجنوب كندا بالظلام وتسببت بخسائر اقتصادية فادحة للبلدين. قُتِلَ «أبو الطيب» خلال أحداث سجن صيدنايا 2008. ففي حديث دار بيننا في السجن أواخر عام 2006، كان موضوعه الأساس الموقف من أبي القعقاع والاتهامات الموجهة له بالعمالة للنظام السوري، وكان مجمل كلام أبي الطيب فيه يتجه إلى نفي تبني تنظيم القاعدة لأبي القعقاع في أي وقت، قال: «لم يستطع أبو القعقاع إقناع أحد خارج سوريا بصدق دعوته وعمله، لقد كان الجميع مستغربين من حماسه وخطبه النارية في بلدٍ عُرِفَ بكتابة خطبة الجمعة لأئمة المساجد من قبل المخابرات».
بعد مدة، في العام 2004، أصدرت قيادة القاعدة في العراق فتوى بهدر دم أبي القعقاع بحجة تعامله مع النظام السوري وإيقاعه بالمجاهدين. لكن أبو القعقاع لم يكن الداعية الوحيد الذي دعمته المخابرات السورية لحث الشباب على الجهاد في العراق، فقد كان في سجن صيدنايا كثيرٌ من المشايخ والأئمة من مختلف المناطق السورية من ساهموا، بأوامر مباشرة أو غير مباشرة من مخابرات النظام السوري، بدفع الشباب إلى الجهاد في العراق. منهم -على سبيل المثال- فؤاد نعال، وهو شيخ مسجد في منطقة العدوي بدمشق حوّلَ مزرعته في منطقة صحنايا إلى مقرٍ دعويٍ جهادي، ومكان لتدريب المجاهدين على حمل السلاح بسيناريو شبيه بسيناريو أبو القعقاع في مسجد العلاء بحلب.
هناك أيضاً عبد الحليم جاموس، وهو شيخٌ من طيبة الإمام في محافظة حماة، ساهم في إرسال العديد من الشباب إلى العراق، وخرجَ هو أيضاً على رأسهم. اعتُقل عام 2007 وحُكِمَ بالسجن لمدة عشر سنوات، ليتم إخلاء سبيله بموجب العفو الرئاسي حزيران 2011، ويُقتَل على يد قوات الأمن السورية في إحدى الاقتحامات للبلدة عام 2012؛ وعبد الله الخطيب، شيخٌ وخطيبُ مسجدٍ في قرية بزابور بمحافظة إدلب، عَمِلَ أيضاً على الدعوة للجهاد وإرسال المقاتلين إلى العراق. اعتُقِلَ بدوره عام 2007، وأخلي سبيله عام 2011 في العفو الرئاسي أيضاً.
لا أبالغُ إذا قلتُ إن عدد الدعاة والمشايخ الموجودين في سجن صيدنايا، والذين كان لهم دور كبير في حث الشباب على الجهاد في العراق منذ العام 2003 حتى العام 2008، تاريخِ تمرد سجن صيدنايا الشهير، قد بلغ حوالي 40 داعيةً وشيخاً وخطيبَ مسجد، كانت السلطات السورية قد غضت النظر عنهم، أو سهّلت لهم تجنيد الشبان، أو دعمَتهم بشكلٍ مباشر.
اجتياح العراق
شكّلَ اجتياح القوات الأمريكية للعراق المنعطف الأبرز في تاريخ الحركات الجهادية السورية، فقد ساهم أبو القعقاع وغيره من رجال الدين بزجّ الشباب في قتال القوات الغازية «للبلد العربي المسلم»، وبدأت الدعوة إلى الجهاد على منابر المساجد في تلك المرحلة بشكل شبه علني، حتى وصل الأمر بمفتي النظام يومها أحمد كفتارو إلى إصدار فتوى1 عام 2003، دعا فيها إلى وجوب الجهاد في العراق نصرةً لإخواننا المسلمين هناك.
بدأت باصات الجهاديين تنطلق من دمشق وحلب وكافة المناطق السورية قاصدة الحدود العراقية للالتحاق بالمجاهدين، ولم يقتصر الأمر على السوريين، فقد بدأ الجهاديون يتوافدون من الأردن ولبنان والسعودية ومصر وغيرها من الدول العربية لقتال القوات الأميركية المحتلة. باختصار، حوّل النظام سوريا خلال الفترة الممتدة من عام 2003 حتى عام 2005 إلى منصة دولية لاستقبال الجهاديين وإرسالهم إلى العراق.
حققَ النظام حينها عدة أهداف، أهمها التخلص من السوريين ذوي النزعة السلفية الجهادية القادرين على حمل السلاح، بإرسالهم إلى العراق لقتال الأميركيين بدلاً من قتالهم للنظام نفسه يوماً ما، وإحباط مخطط الإدارة الأميركيّة المعلن يومها، العازم على التخلص من الأنظمة الديكتاتورية في المنطقة، ومنها النظام السوري نفسه.
لكن ارتفاع لهجة التهديدات الأمريكية لسوريا، وتوعد كولن باول وزير الخارجية الأمريكي النظامَ السوري بضربة عسكرية قاصمة في حال لم يضبط حدوده ويوقف إرسال «الإرهابيين» إلى العراق، دفعَ النظام إلى التوقف عن هذه اللعبة بشكل مؤقت. وقتها، أطلقَ رئيس النظام السوري بشار الأسد مثاله الشهير عن الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك، مدعياً أن الحدود مع العراق طويلة ولا يمكن ضبطها بسهولة.
في نهاية الأمر، أُجبر النظام على وقف هذا التدفق وإقفال ملف الجهاد في العراق بشكل شبه نهائي، ترافق هذا مع اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري وما أعقبه من تبعات على سوريا، متمثلة بخروجها من لبنان واتهام النظام السوري بمسؤوليته المباشرة عن هذا الاغتيال. هذه الحادثة سوف يكون لها تبعات على الملف الجهادي أيضاً، سوف نذكرها في وقت لاحق.
بقي أن نذكر أمراً مهماً، وهو أن غالبية الذين شاركوا في قتال القوات الأمريكية في العراق بداية العام 2003 و2004 من السوريين، لم يشاركوا يومها تحت دافع ديني جهادي، ولا أبالغ إن قلت إن معظم السوريين الذين كانوا في سجن صيدنايا من المقاتلين في العراق قاتلوا على خلفية قومية، عشائرية، عاطفية.. وحين عاد قسمٌ منهم زُجَّ بهم في السجون السورية خلال الفترة الممتدة من العام 2004 وحتى العام 2008.
الانعكاسات على سجن صيدنايا
ارتفع عدد السجناء الإسلاميين في سجن صيدنايا بين العام 2004 والعام 2008 -عند انطلاق التمرد الشهير- من 200 معتقل إلى ما يقارب 1460، معظمهم محسوبون على التيارات الجهادية، بمختلف تصنيفاتها.
لم يتجاوز عدد السجناء الآخرين 200 شخصٍ من مختلف التُهَم: إخوان مسلمون، حزب التحرير، نشطاء حقوق إنسان، نشاط سياسي معارض للنظام (أي تُهمتي)، نشطاء الأحزاب والتنظيمات الكردية، حزب العمال الكردستاني، والتعامل مع إسرائيل.
تحوّلَ السجن بعد العام 2005 إلى مصنع لإنتاج التطرف بكل ما تعنيه الكلمة، فقد عمل النظام على الزجّ بكل عائدٍ من حرب العراق في السجن، وبدأت المعاملة القاسية والمهينة والحاطّة بالكرامة تمارس على المعتقلين: ضرب، تعذيب، تفتيش عارٍ، حرمان من الأكل، حرمان من النوم، شتم الأعراض، شتم المقدسات الدينية … إلخ. باختصار، لقد كان التعذيب الممنهج والإهانات جزءً من الحياة اليومية في صيدنايا، وقد مات حوالي 4 سجناء بين الأعوام 2005 و2008 نتيجة انعدام العناية الطبية وسوء الأحوال الصحية في المهاجع. بالإضافة إلى ذلك، موؤس الحرمان من الزيارة وقطع الاتصال مع العالم الخارجي، حيث لا يوجد راديو أو تلفزيون، حتى الجرائد الرسمية الصادرة عن النظام كانت ممنوعة من الدخول إلى المعتقلين.
رغم هذا التعذيب والحصار ومنع كل وسائل الاتصال مع العالم الخارجي، كان النظام يسمح بوجود عدد من المصاحف في كل غرفة، ولا يقوم بمصادرتها. ومع أن الصلاة ممنوعة وهناك عقوبةٌ على من يُضبَط وهو يصلي، كان النظام يسمح بوجود مصاحف وحفظ القرآن الكريم داخل الغرف.
ربما يرسم هذا التفصيل الصغير جزءاً من الصورة، وبالإضافة إلى ذلك كان النظام يخلط داخل السجن أصحاب التجارب القتالية العالية من المجاهدين وزعماء القاعدة مع سجناء لا علاقةَ لهم بالتطرف وبالجهاد، مثل سجناء «دعاوى السيديات»، وهي تهمة كل شخص قُبِضَ عليه وبحوزته «سي دي» لخطبة من خطب أبو القعقاع. يُقدر عدد المتهمين بحيازة سي دي لأبو القعقاع، أو أحد كتب ابن تيمية، بحوالي 400 شخص، منهم أطفال قصّر، تراوحت أحكامهم بين 5 إلى 7 سنوات حسب المستوى التعليمي، فكلما ارتفع المستوى التعليمي كلما زاد الحكم.
هذا الاحتكاك ونقل الخبرات، إذا صح التعبير، كان يتم داخل السجن بشكل يومي، فإذا نظرنا إلى الصورة الكاملة، نجدُ أن أناساً زُجَّ بهم في السجن من أجل «هدفٍ نبيلٍ» متمثل بالدفاع عن الدين والذود عن أعراض المسلمين، يُعامَلون معاملة سيئة ويهانون ويشتم دينهم ولا سبيل أمامهم لفعل شيء.
هنا يدخل السجين في صراع مع الذات، ويبدأ بمرحلة المراجعة لنفسه ومعتقداته، وهنا أيضاً يُقتَلَ الندم بشكلٍ نهائيٍ من مخيلة السجين، فلا مكان للندم على فعلٍ مشرفٍ هدفه نبيل: «العلة ليست بالهدف، العلة في النظام الحاكم، والعلة في كل شيء يخالف العقيدة الدينية والشرع». يعزز من هذه الفكرة وجود دعاة جهاديين بين السجناء، يعرفون كيف يكون التلاعب بالعقول في ظل هذه الظروف العصيبة التي من الممكن أن تؤدي إلى الموت في أي لحظة. هنا تبدأ مرحلة الضخ العقائدي الجهادي، المترافقة مع دروس الولاء والبراء والعقيدة وأصول التوحيد ونبذ الشرك وقتال الفئات الضالة، وكذلك الخوض في الأمور الخلافية.
لا أبالغُ إذا قلتُ إن التاريخ الإسلامي كله، منذ الدعوة المحمدية إلى يومنا هذا، تمت مناقشته في صيدنايا بكل حذافيره. كانت هذه هي الوجبة اليومية لسجناء صيدنايا الإسلاميين.
ليس هذا فحسب، فبعد الوجبات الدسمة من دروس الفقه والعقيدة والتفسير، التي تركز في معظمها على تعظيم الجهاد والقول إنه الركن الأساسي في إيمان المسلم والعمود الفقري للعقيدة الإسلامية الصحيحة، تبدأ عملية الاصطفاء، وتبدأ المناظرات الشرعية، «المباهلة»، بين السجناء الذين التحقوا بالخطاب الجهادي، لتبيان مدى فهمهم لما تعلموه.
تتم مناقشة أمور (كالبرلمان والديمقراطية)، وسوق الأدلة الشرعية على مخالفتها للإسلام. وبعد الإجماع على أنها من الشرك، ينتقل النقاش إلى مرحلة تكفير من يدعو للديمقراطية وتُساق الأدلة الشرعية أيضاً. والمرحلة الأخير تكون بتكفير من لا يكفر الداعين للديمقراطية والبرلمانات الشركية. وعلى هذا المنوال تُناقش القضايا والأمور الفقهية التي لها علاقة حصراً بمواضيع التكفير والحكم على الناس، مثل حكم تارك الصلاة: هل هو كافرٌ أم لا؟ حكم من شتم الله: هل يستتاب أم يقتل؟ المِسبَحَة: هل هي بدعةٌ أم تشبّهٌ بالنصارى؟ تكفير من ينكر بأنها بدعة …. إلخ. ثم تبدأ عملية الفرز للسلفيين أنفسهم، فكل من أنكر تكفير تارك الصلاة مرجئٌ أو ذو عقيدة ضعيفة، وكل من كفّر المدخّن -على سبيل المثال- هو سلفي جهادي حقيقي عقيدته سليمة.
تُناقش كل الأمور الحياتية تقريباً في سجن صيدنايا، ويتم إصدار الحكم الشرعي فيها، من حلق اللحية إلى حلق العانة، ومن تقصير البنطال إلى الخمار ولباس المرأة، ومن النظافة الشخصية إلى الاجتمار2 إلى أصول ممارسة الجنس مع الزوجة وفق الشريعة الإسلامية. كل شيء يمكن أن يخطر على البال نوقش في صيدنايا.
هذه الدروس والنقاشات كانت تتم بعلمٍ من إدارة السجن، التي لم تكن تتحرك لتوقفها. أذكرُ جيداً ردَّ مدير سجن صيدنايا، علي خير بيك، عندما زارنا في جناح العقوبات (ج يمين)، وطلبتُ منه أن يتم نقلي إلى زنزانة انفرادية، لأن ذلك أفضل بالنسبة لي من البقاء مع السلفيين الجهاديين، وأنا منبوذٌ ومكفّرٌ لأنني أدعو إلى الديمقراطية. قال يومها: «خليك هون أحسن… غيّرهم خليهم يصيروا متلك، أو صير متلهم، أنا ماني فاتح أوتيل هون».
هذه الكلمات كانت كفيلة لترسم مسار حياتي في السجن لمدة خمس سنوات، وتفتح عيني على السياسة التي كان النظام يطبقها في تحويل السجناء إلى تكفيريين داخل السجن. كنا على هذه العملية اسم «السلفنة» من باب التندّر، وهي العملية التي تركّز على الجهاد وجعله الركن الأعظم في إيمان المسلم، مترافقةً مع منهاج عقائدي يتمحور حول آيات الولاء والبراء، جاعلاً من الأحكام الشرعية الواردة في سورتي التوبة والأنفال ناسخةً لكل الأحكام الواردة في التعامل مع أهل الكتاب، من مسالمتهم والعفو عنهم والإعراض والصبر على أذاهم، ومؤكداً على وجوب قتال الكفار والمرتدين «حيث ثقفتموهم»، متنصلاً من أي عهد وذمة لهؤلاء، حتى أن بعض المغالين يقولون إن سورة التوبة قد نسخت مائة ونيف من آيات القرآن الكريم.
أمثلة على «السلفنة»
معتقلو «دعوى الإذاعة» عينةٌ أخرى من السجناء في سجن صيدنايا. هم مجموعة أطفال من مدينة عربين أكبرهم يبلغ 17 عاماً، هاجموا مبنى إذاعة دمشق في العام 2007 بفتوى من شيخٍ كانوا يترددون عليه. أصيبَ عددٌ منهم في الهجوم واعتقلوا، وعندما وصلوا إلى صيدنايا زَجَّت بهم إدارة السجن في مهاجع التكفيريين، في حين كان بإمكانها أن تضعهم لوحدهم. ولقد طلبنا ذات مرة من مدير السجن، علي خير بيك، نقلهم إلى مهجعنا3 كونهم أطفال ومن الخطر وضعهم مع التكفيريين، فكان جوابه: «اخرسوا وانضبوا… هون مو مريديان حتى نجيب على كيفكم…. ومو انتوا بدكم تعلمونا شغلنا».
أصبح هؤلاء الأطفال بعد سنة من عتاة المتطرفين، ومن المستحيل النقاش معهم، لأنهم لا يتقبلون أي رأي مخالف بعد أن تشربوا التطرف فكراً وممارسة خلال أحداث التمرد في العام 2008. كانت هذه المجموعة رأس حربة في إفشال الاقتحام العسكري للسجن، وكان لهم دور كبير في أسر أكثر من 1200 شرطي من الشرطة العسكرية اقتحموا سجن صيدنايا صباح الخامس من تموز من عام 2008.
باختصار، يمكن القول إنهم كانوا انغماسيي الاستعصاء، ولقد طبق هؤلاء الفتية الخبرات التي تربوا عليها في صيدنايا بعد أن أطلق النظام سراحهم في أعقاب اندلاع الثورة في العام 2011. اليوم، يتزعم هؤلاء الفتية العمل المسلح ضمن «جبهة النصرة» في منطقة حماة وإدلب وريف حلب.
عملاء واختراقات داخل السجن
نديم بالوش هو أحد أكثر السجناء غرابة وتناقضاً. ادّعى الانتماء لتنظيم القاعدة، لكنه لم يقاتل يوماً وليس لديه أي خبرة بالسلاح. اعتُقِلَ بالوش في تركيا بتهمة تشكيل خلية تابعة للقاعدة وتفجير كنيس يهودي في إسطنبول في العام 2001 بالاشتراك مع شاب سوري اسمه لؤي السقا، والأخير معتقل في تركيا حتى يومنا هذا.
سُلِّمَ بالوش إلى السلطات السورية عام 2003، حيث اعترف بتشكيل خلية نائمة للقاعدة في مدينة اللاذقية، وزُجَّ معه في المعتقل 3 أشخاص حُكِمَ عليهم بالسجن من 7 إلى 10 سنوات من قبل محكمة أمن الدولة العليا، وهو ما يضع العديد من علامات الاستفهام عليه.
نديم بالوش كان من قادة «التصعيديين»، وهم الفريق الذي رفض التفاوض مع النظام وقتل عدداً كبيراً من الشرطة العسكرية والسجناء أثناء الاستعصاء في صيدنايا عام 2008. سمّى بالوش نفسه أمير التسليح، وكان من أشد المحرّضين على التمرّد وقتال النظام وعدم تسليم السجن أو تسليم السجناء أنفسهم. وعندما قامت قوات النظام بتمشيط السجن، قتلت الجميع إلا نديم وشخصين آخرين.
تعدُّ هذه أهم علامات الاستفهام على الرجل الذي أُطلِقَ في أواخر عام 2010، بدون أن ينهي قضاء محكوميته، إذ قضى سبع سنوات بدلاً من عشر. واللافت أنه بعد العصيان في صيدنايا حُكِمَ على قادة التمرد يومها بالإعدام، بينما لم يحاكم بالوش مرة ثانية.
مع بداية الثورة، شكّلَ بالوش ما عرف بكتيبة «ريح صرصر»، وظهر على شاشات التلفزيون السوري وتلفزيون الدنيا وهو يقوم بتجريب أسلحة كيميائية على الأرانب في مختبر، ويهدد بتسميم مياه نهر السن، شمال محافظة طرطوس على الساحل السوري، وقصف القرى العلوية في الساحل بالسلاح الكيميائي.
اعتقل الجيش الحر بالوش في العام 2012، وعُرِضَ على محكمة شرعية في اللاذقية بتهمة قتل النقيب المنشق عن جيش النظام السوري رياض الأحمد، ثم وضعَ في سجن تابع لجبهة النصرة، ليتم لاحقاً تحريره من قبل «داعش».
بعد أربع سنوات من التخفي والنشاط الجهادي على وسائل التواصل الاجتماعي، تم الإعلان عن انتحار بالوش ربيع العام 2016 في أحد السجون التركية.
الخزان الجهادي
استفاد النظام من هذا الخزان الجهادي بشكل كبير كلما شعر بالخطر، ولعل أحداث نهر البارد في لبنان العام 2007 نموذجٌ على ذلك. كان العمود الفقري لتنظيم «فتح الإسلام» مجموعةً من السجناء الفلسطينيين والسوريين كانوا قد اعتقلوا في العام 2003 لمحاولتهم التسلل إلى الجولان السوري المحتل وضرب أهداف إسرائيلية. عُرِفت هذه القضية في سجن صيدنايا باسم «الدعوى 33»، وكان شاكر العبسي هو زعيم المجموعة. وقد أُخرجت هذه المجموعة من السجن وتوجهت برعاية مخابراتية إلى لبنان، ويبدو أن النظام قد استخدمها إثرَ اتهامه باغتيال رفيق حريري، بهدف الضغط على قوى 14 آذار في لبنان.
لكن استفادة النظام العظمى كانت خلال الثورة السورية، فقد أطلق جميع السجناء الموجودين في سجن صيدنايا من الموقوفين على خلفية تهم جهادية، في محاولة منه لإعادة إنتاج شرعيته أمام العالم، وإظهار الثورة على أنها سلفية تكفيرية. ارتكز إعلام النظام في خطابه على بثّ الخوف من المتظاهرين السلميين بحجة أنهم إرهابيون، ولازمَ هذه التهمة بأنهم طائفيون، وذلك بهدف تصوير نفسه بأنه حامٍ للأقليات، وسعياً منه لدفع الصراع إلى مربع الطائفية.
زادَ على القمع الوحشي للمظاهرات بتحالفه مع إيران وحزب الله والمليشيات الشيعية في العراق، وقتالهم جنباً إلى جنب معه لقمع الثورة السورية. كل هذه أفرزَ مشاعر «سنية»، توقن أنها تتعرض لصراع طائفي قائم على أرض الواقع، الأمر الذي قاد إلى ولادة تنظيمات كجبهة النصرة وغيرها.
المستودع
كان قسمٌ من ضباط المخابرات يطلقون على سجن صيدنايا اسم المستودع، وهو بالفعل مستودعٌ بكل ما تحمله الكلمة من معنى، مستودعٌ لأناس قدموا الغالي والنفيس في سبيل قضايا آمنوا بها ودفعوا ثمنها سنوات من عمرهم مغيَّبين عن العالم الخارجي، في أقبية وزنازين أقل ما يمكن وصفها به هو أنها كانت كالقبور.
هو مستودعٌ لأشخاص استخدمهم النظام في عملياته وخططه، وعند الانتهاء من استخدامهم زجَّ بهم في السجن بتهم الفساد وإهدار المال العام. وهو مستودعُ الجهاديين الذين صنعهم النظام داخله ثم فتح أبوابه أمامهم على مصراعيها، مطلقاً العنان للمارد الجهادي الذي كان قد اضطهده ونكل به، ثم أخرجه إلى مجتمعٍ يغلي على وقع الثورات العربية، ليقود بعد مدة العمل المسلح ضد النظام، ويتصدر المشهد اليوم.
لكن يبقى أن الاسم المستخدم بين السجناء أنفسهم هو «الأكاديمية»، وهذا الاسم دليلٌ على مدى التغيّر الذي أحدثه هذا السجن في حياة الذين عاشوا فيه خلال الفترة الممتدة من 2003 إلى 2011، حين خرجوا ليقوموا بتطبيق ما تعلموه هناك على أرض الواقع.
موقع الجهورية