لم يكن مبعوث الأمم المتحدة إلى سورية، استيفان دي ميستورا، في مهمّته سوى “ملاغ” في مسرح صانع الحكايات، فهو لا يهدأ أمامهم، إن في حركته أو تلوين صوته، على الرغم من تركيزهم على الفنّان المحرّك للدمى خلف الستار. ولأن “الأراجوز” يقوم على الارتجال والتفاعل مع الجمهور، يتعاظم دور “المُلاغي” في العرض، لإيصاله القفلة المنشودة، فهو يشارك المحرّك حواره، ويكرّر المضحك والمبكي من كلماته، ويردّد أغنياته، ويعزف لحنه المختار، ويستحثّ على التفاعل مع الحكاية والاندماج مع الدمى، لكنه يلتفّ على ما لا يريد وقت يريد، ويسيّر المشهد بإصرار لما يريد، وإن خرج عن النصّ، فباتّفاق أو إشارة تُلهب الأكفّ تصفيقاً والحناجر استحساناً.
هو ذا ما كانت عليه حال دي ميستورا منذ تسلّمه الملفّ السوري، إذ أن سابقَيه، مثل كوفي أنان، اعتذر عن المتابعة قائلاً: “لقد بذلت قصارى جهدي”؛ لتعذّر تنفيذ نقاطه الستة، ولأن “العسكرة المتزايدة على الأرض، والافتقار الواضح للوحدة داخل مجلس الأمن غيّرا بشكل جذري ظروف ممارسة مهامّي بشكل فعّال”، والأخضر الإبراهيمي الذي لحقه، وقد تمكّن، بعد سنتين، من تنظيم مفاوضات بين ممثلي النظام والمعارضة، لإدراكه استحالة تحقيق أي إنجاز، لكن دي ميستورا استمرّ “صامداً” في مهمّته، على الرغم من عدم تغيّر توصيف أنان للوضع، يتأرجح أربع سنوات في بهلوانيات لم تُجدِ، بل شهدت انقلاباً جذرياً في المواقع والمواقف والقوى والتوازنات والصراعات والخروقات والتجاوزات التي أصبحت إنجازات لمصلحة النظام وداعميه، ولكنها لم تشكّل اختراقاً يبرّر استمراره في التضليل واستدامة الوهم؛ لتغيّر إستراتيجيّات اللاعبين المتكاثرين، وعجز محرّك الدمى أمام انسداد أفق حكاياته وعجز إبداعه، فترَك ديمستورا إرثاً ثقيلاً سينوء بحمله خلفه بيدرسون بعد تسع جولات لجنيف و11 لأستانا وسوتشي اليتيم، وكذلك تسعة فيتوات في مجلس الأمن، وتدخّل روسي مباشر قلب الموازين على الأرض رأساً على عقب، وبذلك حقّق مطاردات تفاوض عبثيّ (التفاوض للتفاوض)، فلا هدفَ له غير القيام بتداريب لتنفيذ ما لا يمكن في ظلّ انسداد التعاطي مع وقائع فات وقتها بالنسبة لأطراف الصراع، ولأنه لم يعِي جوهر القضية السوريّة، فأخذ بإدارة سبل علاج النواتج دون النظر عميقاً في أسبابها.
أضحى دي ميستورا عرّاباً للقوى الوالغة في الدم، يميل مع راجح الكفّة على حساب المرجعيات الدولية، فلقد شرعنَ بضغط روسيّ مسار أستانا، فحقق النظام وداعميه على الأرض سحقاً عسكرياً متتالياً لقوى الثورة، وتفتيتاً للمعارضة، وذلك عندما أعطى حقاً لمن لا يستحقّ بضمّه منصّتي موسكو والقاهرة إلى هيئة التفاوض، ثم كانت سلاله الأربعة تجزئةً مقصودة للعمل “بالقطعة”، فكانت النتيجة وضع الحصان خلف العربة، لجعل الانتقال السياسي تحصيل حاصل بعد تحويل القضية السورية برمّتها إلى خلاف حول دستور لم يُعطَ فرصة تشكيل لجنة لإنجازه، على الرغم من شرعنته مؤتمر سوتشي، ودعوته المعارضة للإقرار بهزيمتها وقبول المتاح لها!
بالتأكيد، سيصغي دي مستورا لنصح العارفين، ولن يهمل آلاف الملفّات، وسيختار المَهَرة من المساعدين والخبراء، وسيقرّر مصير أيتام سلفه كومبارس المجتمع المدنيّ. ولكن هل سيعمل مع الأقوى بصياغة الإملاءات على أنها تفسير للقرارات الأممية؟ وهل سيتابع بآليات ديميستورا أو يضع آليات يراها الأجدر؟
إن كان دي ميستورا، بعد سنواته العِجاف، قد شعر بالندم في إحاطته الوداعية لِما لم يُنجَز، وقد وضع حجر الأساس، فهل ستتغيّر معطيات الحرب السائدة والصراعات الدولية والإقليمية وتناقضاتها، وخصوصا بعد إعلان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، سحب قواته من سورية، واتهام الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، دي ميستورا بتعطيل إنجاز اللجنة، علماً أن الأخير أقرّ أن تشكيلها لا ينسجم وروح ونصّ قرار مجلس الأمن 2254؟
ما يمكن أن يفعله المبعوث الجديد، بيدرسون، أمام كومة من الكوارث في سورية التي تكابد احتلالات ومطامع إقليمية وتقاطعات مصالح دولية، تبدأ بنظام مافيوي بلبوس دولة، ومعارضة مرتهنة أو مُستَزلمة للمتصارعين، وملايين اللاجئين والنازحين وآلاف المعتقلين، ودمار هائل ومطامع إعمار يسيل لها لعاب المستثمرين؟
خيارات بيدرسون محدودة، فإمّا أن يبحث عن مدخل جديد للعملية السياسية لتنفيذ القرار2254، أو يطالب بقرار دولي جديد واضح يضع آليات ملزِمة للحلّ بتفاهمات وتوافقات للقوى الدولية الفاعلة، وإمّا متابعة طريق دي ميستورا المسدود معتمداً إرثه، فيكون الملاغي الجديد، والشاهد على مرحلة رديئة لصفقات ومقايضات وتسويات تؤسّس لحدود جديدة، وعقود من الفوات والدماء.