ركز الغالب من نَعي أمين عام منظمة العمل الشيوعي، محسن إبراهيم، على اختفائه بعد انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية. إذ ربط هذا التركيز بين اختفائه والمشهد السياسي في التسعينات، بحيث أن الأول هو بمثابة موقف نقدي حيال الثاني، كما أنه بمثابة دليل منه حول ضحالته، التي كان للاحتلال البعثي الموقع الطاغي فيه.
وبالفعل، التركيز على اختفاء محسن إبراهيم بعد الحرب، بوصفه نقداً، يبدو دقيقاً، وهو، وفي حال الوقوف على معناه أكثر، من الممكن الإشارة إلى أنه حول صاحبه إلى ما يشبه الأسطورة التي واظب على تناقلها جيل أو إثنان من اليسار على اختلاف توجهاته.
قوام هذه الأسطورة أن ابراهيم يمتلك حقيقة ما، حقيقة تتعلق بكل فترة الحرب إياها. لكن، وبانسحابه من المشهد السياسي، وبالتالي إقلاعه عن التدخل في الشأن العام، أبقى كثرة، أكانت من اليسار حصراً، أم من غيره، من دونها. فثمة كلام عن الحرب، لم يقله المنوطون به، وهم فعلوا ذلك لأنه وجدوا محلاً لهم في النظام اللاحق على توقفها. أما إبراهيم، فلا. لم يأخذ مكاناً بينهم، جلس في هامشه، ومع ذلك، حذا حذوهم، احتفظ بالكلام لنفسه. بهذا، تزداد الأسطورة أثراً، ففي حين ترك ابراهيم الحقيقة التي يدركها بلا أن يبوح بها، كان النظام بعد الحرب يشتغل، ويحقق مذهبه، الذي وصل إلى عقباه حالياً، إلى انهياره.
بهذا، رست الأسطورة على نحو بعينه: الحقيقة، التي يعرفها ابراهيم، ولا يقولها بفعل اختفائه، على صلة بالنظام، على صلة لا يمكن تحديدها سوى باعتبارها ضدية. إذ أن قول الحقيقة قد يطيح النظام، أو قد يحدث تغييراً فيه. فهي بمثابة واقعة، قد تقدم على إحياء تاريخ، وإطار، وسياسة. بالتالي، لا بد للمحتفظ بها أن يقولها، ألا يبقي على الاحتفاظ بها لنفسه. لكن إبراهيم لم يتلفظ بهذه الحقيقة، الأمر الذي زادها جاذبية، جعلها تبدو كما توصف، أي مجموع الأسرار عن وقائع ومجريات كثيرة، بحيث أن كشفها سيبدل في السرد، وربما سيحمل على تبديل الرواة، والإنتهاء من سلطتهم. لقد وعدت تلك الأسطورة، أو هكذا صُوِّر، بسرد مختلف، بسرد يعرف الحرب، ولا يسمح للنظام أن يروي وحده.
لم يتحقق من الأسطورة وعدها، أو ربما تحقق، لكن بشكل طفيف، وليس مثلما كان مُنتظراً. فها هو إبراهيم يقول، ومن الكلام الذي يحتفظ به، جملة واحدة، أي جملته الشهيرة حول الذهاب بعيداً في “تحميل لبنان الأعباء المسلحة للقضية الفلسطينية”، بالإضافة إلى “استسهال ركوب سفينة الحرب الأهلية تحت وهم اختصار الطريق الى التغيير الديموقراطي”. على هذا المنوال، بدت الحقيقة، التي ينطوي عليها اختفاء إبراهيم، ضرباً من النقد الذاتي، من نقد الحرب، والمشاركة فيها. وهو، فعلياً، ليس مجرد نقد، إنما يشبه الإعتراف، كما يشبه التوبة. وعلى هذا المنوال أيضاً، تغيرت الحقيقة من احتمال كونها حدثاً في النظام الى كونها حدثاً حيال ماضيه، حيال الماضي الذي كان النظام قد ارتفع بعد الحرب فوق إزالته. فقد بقيت الحقيقة في هذا الماضي، علقت عليه محولةً إياه إلى خطأ، أو إلى “خطأين”، ولم تتقدم نحو النظام، الذي كان بدوره قد كتمه.
ومع هذا، لم تفقد الحقيقة جاذبيتها، ولم يتبدد انتظار البوح بها كاملةً، حتى لو كانت، وبفعل اعترافها، قد أعلنت هزيمتها أمام النظام، أمام إرادته نفي حربها بسِلمه.
لقد انتُظر محسن إبراهيم طويلاً، انتُظِر كلامه، انتُظرت الحقيقة منه. إذ تكرر ولسنوات استفهام بعينه حول سبب صمته، وحول موعد انصرافه منه: “لماذا لا يتحدث إبراهيم؟ ولماذا يستمر في صمته؟”.
طال الوقت، لم يأت الجواب. انهار النظام، مات أبو خالد، وصارت الأسطورة كاملة.