كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

تقول الحكاية الأولى إنّ بعض قادة «حزب الدعوة» هم أبرز المحرّضين على تظاهرات الاحتجاج الشعبية في النجف، المدينة التي تحتضن مرقد علي بن أبي طالب؛ رابع الخلفاء الراشدين عند السنّة، وأوّل الأئمة عند الشيعة الإثني عشرية. لماذا التحريض، قد يتساءل المرء، ورئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي ينتمي إلى «الدعوة»؟ الإجابة بسيطة، رغم أنها لا تخلو من الدراما: لأنّ هؤلاء القادة لا يتنعمون بالمكاسب التي يجنيها قادة آخرون في الحزب ذاته، يحدث أنهم في مواقع (المطار مثلاً، الذي اقتحمه المتظاهرون) تتيح لهم الكسب غير المشروع.
في البصرة، كما في سامراء والعمارة وذي قار، تذهب الحكاية مذهب المطالب الخدمية المباشرة، أي الكهرباء والماء؛ ولهذا يهاجم المتظاهرون منشآت النفط، العراقية والعالمية، لأنّ الوقود المتوفر لتشغيل محطات الكهرباء غير كافٍ (في بلد يزمع زيادة إنتاجه من النفط إلى 6،5 مليون برميل يومياً!). الحكاية هنا ترتدي صفة إقليمية، غير خالية من المفارقة «المذهبية»: الكويت (البلد السنّي، الذي اجتاحه صدّام حسين سنة 1990) يقرر تأمين الوقود لمحطات الكهرباء العراقية المتوقفة عن العمل؛ وفي المقابل، فإنّ إيران (البلد الشيعي، المتمتع بالنفوذ السياسي والأمني والديني الأقوى في العراق) تختلق عشرات الذرائع في تبرير امتناعها عن استئناف ضخّ وقود التشغيل.
مضامين هاتين الحكايتين، وسواهما من حكايات أخرى متنوعة المحتوى ومتشعبة الدلالة، لا تبخس في شيء سلسلة المطالب المشروعة التي ساقها المتظاهرون في محافظات جنوب ووسط العراق؛ خاصة تلك التي تمحورت حول الفساد والفشل الحكومي والتقصير الإداري، أو التي ربطت بين استئساد غالبية الأحزاب الشيعية في سوريا عبر ميليشياتها المختلفة، مقابل إهمال جماهيرها الشعبية التي كانت وتظلّ وقود صعود تلك الأحزاب. لكنها، في المقابل، مضامين أقرب إلى القرائن الدامغة (ثمّ المتفجرة، والدامية أيضاً حيث كان آخر الضحايا متظاهر قُتل أمام فرع «منظمة بدر» في الديوانية)، حول الهوة الفاغرة بين هرم التمثيل الشيعي وقواعده، على مستويات حكومية ومعيشية وخدمية مباشرة وحيوية، قبل أيّ مستوى مذهبي أو حزبي أو سياسي.
وليس دون مفاجأة، في الصياغة اللغوية بادئ ذي بدء، أنّ عدداً غير قليل من المعلقين العراقيين لم يجدوا أيّ حرج في استخدام تعبير «الانتفاضة الشيعية»؛ وذلك بعد استذكار حقيقة أولى تشير إلى عدم انخراط الجمهور الشعبي السنّي في تظاهرات محافظات الجنوب والوسط، أو قلّة الحماس لها؛ وحقيقة ثانية مرادفة تشير، من جانب آخر، إلى مزاج مماثل لدى المحافظات الشيعية إزاء انتفاضات شعبية اجتاحت المحافظات السنّية؛ خلال نموذجَيْ 2008 و2013، على التوالي.
صحيح، غنيّ عن القول، إنّ الحاجة إلى الكهرباء لا تختلف بين مواطن عراقي سنّي وآخر شيعي وثالث كردي ورابع آشوري… ولكن، كيف يمكن إغفال المحتد المذهبي لمسؤول مقصّر وفاشل، إذا كان في الأصل قد صعد على لافتة هويته المذهبية؟ وكيف يُنتظر من جمهور سنّي في الموصل، على سبيل المثال، أن يتضامن مع تظاهرة جمهور شيعي في البصرة، إذا كان «الحشد الشعبي» الشيعي هو سيّد الأمن في الموصل، وحامل المفهوم الذي يقول إنّ غالبية أهل السنّة في المدينة هم من الدواعش؟ هذا سؤال لا يزجه في قلب النقاش منطقٌ راهن طاغٍ، سوسيولوجي قبل أن يكون سياسياً، فحسب؛ بل تشارك في تغذيته تلك الشرائح النخبوية التي تزعم الترفع عن المذهبية، لكنها تكشف أسوأ ما في التمذهب من تعصب وانعزال وتخلف وجاهلية، وتنتج أردأ ما يتماشى معه من خطابات تأثيم الآخر وتمجيد الذات.
وفي معارضة هذه الشرائح تحديداً ثار العراقيون مراراً، منذ الغزو الأمريكي سنة 2003، فتبدلت مواقع، وتعدلت ولاءات، وصعدت أحزاب، وعربدت ميليشيات، وتفسخت نُخب ومُسخت أخرى… لكنّ أسباب الانتفاض الشعبي الجوهرية بقيت كامنة، في ازدياد واتقاد، أياً كانت هوية «المذهب» وانحيازاته، وكيفما تعالى ضجيج النخبة وعجيجها!