كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

ثمة ما يدهش حقاً، دون أن يفاجئ كثيراً، في رسالة الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز إلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والتي يطلب فيها تدخل فرنسا للحيلولة دون إتمام صفقة بين الدوحة وموسكو تتضمن بيع صواريخ S-400 الروسية المضادة للطائرات. وقد كشفت صحيفة «لوموند» الفرنسية النقاب عن هذه الرسالة، وذكرت أنها لم تنطو على «قلق عميق» انتاب الملك السعودي إزاء الصفقة، فحسب؛ بل احتوت كذلك على التهديد بعمل عسكري ضدّ قطر: «المملكة مستعدة لاتخاذ كل الإجراءات الضرورية لتصفية هذا النظام الدفاعي، بما في ذلك العمل العسكري»، قال الملك في رسالته.
عنصر الإدهاش الأوّل، وهو شكلي بادئ ذي بدء، أنّ مراسل الصحيفة الفرنسية في بيروت، بنجامن بارت، هو الذي أماط اللثام عن الرسالة السرية؛ الأمر الذي يشير إلى أنّ «دود الخلّ» كان مصدره الشرق الأوسط، وربما الأوساط ذات الصلة بالمملكة، أو بوليّ العهد محمد بن سلمان، الذي لا تخفى ذهنيته عن روحية الرسالة. ورغم رفض وزارة الخارجية الفرنسية التعليق على صحة الواقعة، وهذا في الأعراف الدبلوماسية يندرج عموماً في باب الإقرار، فإنّ افتضاح الحكاية على أعتاب الذكرى الأولى للحصار على قطر له دلالات متعددة لا تخفى.
وفي الذهاب إلى المضمون، تالياً، أليس من المدهش أن يعترض الملك سلمان على صفقة سلاح لم تُعقد بعد؛ هو الذي تعاقد للمملكة على صفقات تمهيدية مماثلة للأنظمة الصاروخية إياها، خلال زيارته إلى موسكو في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي؟ فلماذا يحقّ للمملكة ما تسعى إلى منعه على جارة وشقيقة، أياً كان الخلاف والشقاق، من حيث المنطق البسيط؟ صحيح أنّ المحاكمة العقلية السليمة ليست من شيم بن سلمان، صانع سياسات المملكة حتى إشعار آخر، ولكنّ يصعب للمرء أن يتخيّل افتقار وليّ العهد إلى عاقل واحد في بطانته، ينصحه بأنّ قصر الإليزيه لا يفتقر من جانبه إلى المحاكمة العقلية، وأنّ ماكرون سوف يتساءل ببساطة: كيف للنظام الصاروخي أن يكون مشروعاً للرياض، ومحرّماً في الآن ذاته على الدوحة!
مدهش، ثالثاً، أنّ رسالة الملك سلمان إلى الرئيس ماكرون تقرّ حرفياً بأنّ أنظمة S-400 دفاعية، أي أنها ليست هجومية، في التعريف والوظيفة؛ فكيف، والحال هذه، يمكن لنصبها في أراضي قطر أن تكون له «عواقب» على «أمن المجال الجوي السعودي»، أو أن يشكّل «تصعيداً» على أيّ نحو؟ هنا أيضاً، لن يعدم قصر الإليزيه خطّ تفكير منطقياً وعقلياً يتساءل هكذا: ألا تشكّل الأنظمة الصاروخية ذاتها، حين تُنصب في الأراضي السعودية، «عواقب» مماثلة؛ بل أخطر، أيضاً، بالنظر إلى انخراط المملكة، عبر حربها على اليمن، في مواجهة غير مباشرة مع إيران؟
ومدهش، رابعاً، أن تلجأ الرياض إلى باريس للتوسط حول منع إتمام الصفقة، وليس إلى موسكو مباشرة؛ على نقيض المنطق البسيط هنا أيضاً. فما دامت المملكة قد دشنت، في عهد الملك سلمان تحديداً، طور انفتاح وتعاون مع روسيا، رغم الخلافات بصدد الملف الإيراني؛ فلماذا لم تتوجه مباشرة إلى صانع الأنظمة وبائعها الأصلي، بدل وسيط لا ناقة له ولا جمل في الصفقة؟ وهل خُيّل لوليّ العهد، الذي يقف خلف الرسالة دون ريب، أنّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يمكن أن يرضخ لضغط نظيره الفرنسي، في مسألة تخصّ قطر والسعودية؟ وأيّ قصور مريع في تفكير بائس كهذا، إذا صحّ؟
ليس أقلّ إدهاشاً أن تلوّح المملكة بالخيار العسكري، للمرة الثانية في واقع الأمر، بعد أن كانت قد أدرجته ضمن خيارات المراحل المبكرة من فرض الحصار؛ وكأنّ العقل، أخيراً، لم يعثر على عاقل في المملكة يتبصر في ما تسدده السعودية من أثمان فادحة لقاء المغامرة العسكرية الحمقاء في اليمن. ولا مفاجأة، يتوجب التشديد مجدداً، في غمرة كلّ هذه المدهشات!