كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

وصول رئيس الوزراء اللبناني المستقيل، سعد الحريري، إلى العاصمة الفرنسية باريس يطوي فصلاً من الدراما التي اكتنفت استقالة ذات ملابسات غامضة، في التوصيف الملطّف الأدنى: أنها أُعلنت متلفزة، من العاصمة السعودية الرياض، عبر قناة سعودية، وارتكزت مفرداتها على تشدد غير مسبوق ضدّ إيران و»حزب الله».
من حيث المبدأ، يجوز القول إن مبادرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قد آتت أكلها على أصعدة مختلفة؛ لعلّ أشدّها وضوحاً البرهنة، مجدداً، على أنّ باريس تمارس ببراعة مبدأ «القوة الناعمة»، وليس في مناطق يسيرة آمنة فحسب، بل في الشرق الأوسط أيضاً، حيث الحرائق وحقول الألغام وأمهات المخاطر. صعيد آخر هو تجنيب الحريري نفسه، ثمّ السعودية معه ومن خلفه، حرج سفر رئيس الوزراء المستقيل إلى بلده مباشرة من الرياض، دون «مباركة» من قوّة كونية مثل فرنسا، احتٌسب لبنان عليها منذ تأسيسه. وهذا صعيد قد يكون بوابة أولى لإعادة إدخال الدبلوماسية الفرنسية إلى ملفات شائكة تخصّ إيران (وبالتالي «حزب الله»)، وسوريا، والعراق، واليمن، والخليج العربي؛ فضلاً عن لبنان ذاته أيضاً، وربما في المقام الأول.
وإذْ يعود الحريري إلى بلده من منفذ رمزي لا تخفى دلالاته، فيظهر رسمياً للمرة الأولى في احتفالات عيد الاستقلال اللبناني كما أُعلن، فإنّ هذا التظهير للرمز، على أهميته، أمر مختلف عن تلمّس بعض تجلياته على أرض الواقع. وسواء تراجع عن استقالته أو تمسك بها، فإنّ تأكيد روح استقلال لبنان عن استقطابات المنطقة لن يفضي بالضرورة إلى إطلاق تدابير ملموسة نحو أية صيغة تطبيقية لمطلب «النأي بالنفس» الذي تشبث به الحريري في خلفية استقالته. يستوي، كذلك، أن يعود الرجل إلى بيروت مباشرة، أم يمرّ بالقاهرة كما أشيع، فالبُعد الفاعل يبقى عالقاً بين طهران والرياض في نهاية المطاف.
ويبقى السؤال عالقاً بدوره: فمَن الذي يستطيع، أو حتى يتجاسر، على مطالبة «حزب الله» بنزع سلاحه، والتحوّل من قوّة عسكرية ضاربة مسلحة حتى النواجذ، إلى مجرد حزب سياسي له ما يمتلك من حصة في اللعبة السياسية اللبنانية، وعليه ما يتوجب لكي تظلّ تلك اللعبة سلمية داخلياً وغير مفخخة إقليمياً؟ هل في وسع رئيس الجمهورية التفكير في خيار كهذا، وهو حليف الحزب، وكان وصوله إلى الرئاسة محالاً لولا الصفقة التي وافق عليها الحزب؟ أم هو الجيش اللبناني، الذي ظلّ على الدوام مرآة تعكس تقسيمات لبنان السياسية والمذهبية والطائفية؟
ويبقى، في المقابل، أنّ إسرائيل قد تكون العنصر الأكثر تسييراً لدفّة المستقبل المنظور في لبنان، لثلاثة أسباب على الأقلّ: 1) أنّ ما يشبه الدورة الزمنية العَشْرية تفرض على العقيدة العسكرية الإسرائيلية واجب الحطّ من قدرات «حزب الله» كلما تعاظمت وتطورت نوعياً؛ و2) أنّ طراز حرب 2006 لم يعد كافياً، ولا ملائماً، لإنجاز مستويات مُرْضية في تقليم أظافر الحزب؛ و3) هذا وقت أكثر من مناسب لإنزال ضربة موجعة، بالنظر إلى تبعثر قوى الحزب بين لبنان وسوريا والعراق واليمن، وغرقه أكثر من أيّ وقت مضى في أوحال المنطقة، وخسرانه ورقة «المقاومة» وما كانت تستتبعه من شعبية عابرة لجمهور الشيعة.
وقد تجد إسرائيل أكثر من جهة واحدة تمدّ لها يد العون، سرّاً أو علانية، خاصة إذا جازت ترجمة الموقف الأمريكي الراهن ضدّ إيران إلى ما هو أبعد من التسخين اللفظي، أو جاز افتراض حدود قصوى لما يمكن للمشروع الروسي في المنطقة أن يسهم به لتعطيل الخيار العسكري الإسرائيلي.
هنا، وفي غمرة مستجدات لن تكون أقلّ تعقياً، يُنتظر استهلال الموسم التالي من دراما مفتوحة، لعلّ أبرز عناصرها تشويقاً هو البحث عمّن يجرأ على رمي «حزب الله»، حتى… بغصن أرزة!