غادة الشاويش

أثناء حياتي الجامعية لم أنتسب لأي حزب، لا اليسار ولا الإخوان المسلمين رغم اعتدالهم ولا السلفيين. بصراحة ومع وافر الاحترام لم يعجبني أحد! كانت فلسطين همي الأكبر، اليسار كان فصيلا يتكلم بلغة خشبية ويقتات على تاريخه البائد ولا يقدم حلا عمليا مقاوما للاحتلال. والإخوان كانوا يكثرون من محاضرات الإصلاح الأخلاقي والتعبئة ضد العدو لكن لم يقدموا لنا أي حل عملي لضرب الاحتلال من بلد يملك أطول خط حدودي مع العدو. السلفيون كانوا أصحاب فقه بدوي نصي ظاهري يركز على صغائر الأمور ولا يفهم مقاصد الشريعة ويعانون من قلة المرونة والانفتاح وضحالة الفهم السياسي.
ورغم أنني نشأت وأنا أتجرع النقاش، ومنذ طفولتي بين يساري ناصري هادئ، وديمقراطي حقيقي هو أبي العزيز الذي كان شيوعيا بلا إلحاد في بداية شبابه ميالا إلى الليبرالية الاجتماعية وأخواتي الكبيرات اللواتي على عكسه كن متحمسات للفكر الإخواني المحافظ إلا أنني لم أكن منحازة لأحد!، وصممت على أن اكتشف الحقيقة وحدي، ولهذا لم أجد نفسي في أي من هذه التجمعات!
كنت أخطط بعد تخرجي للسفر إلى فلسطين والتسجيل في الجامعة الإسلامية في قطاع غزة لإكمال الماجستير أملا في أن أبقى هناك لأقاوم الاحتلال بعد أن أحصل على تصريح دراسي للدخول إلى فلسطين. كان علي أن أتوجه إلى مكتب ارتباط الجامعة الإسلامية في عمان لأسجل وأحصل على مقعد جامعي. المشكلة الكبرى كيف سأذهب إلى هكذا مكتب محسوب على حركة حماس وأنا أشعر بشدة أنني مراقبة منذ كلمتي في ذلك الحفل. والأمر السيء أنني لا أنتمي لا للإخوان ولا لحماس لكن قد تصبح التهمة بالتحزب مقنعة تماما!
لم يكن يقلقني بعد تللك المواجهة مع وزير الأوقاف إلا واو الجماعة التي تعمد استخدامها ضدي، واصفا إياي بأنني (هؤلاء )! «المدسوسون المحسوبون على جهات خارجية»! ممهدا لتهمة أمنية خطيرة بأنني منظمة حزبية كاملة رغم عدم انتمائي لأي حزب أو مذهب ايديولوجي. كانت هذه هي طريقة الدولة الأمنية العميقة في تكميم الأفواه وملاحقة المعارضين للعدو الإسرائيلي! وغاية ما وصل إليه خيالي هو أن الوزير يتهمني بالعضوية في الإخوان المسلمين وهم مرخصون من السلطات. إذن سأنجو رغم أنفه!
المشكلة أنني سأصبح حقا (هؤلاء )! أمام السلطات بفضل لغة الوزير الماكر، ووقت تقديم الطلبات يكاد ينفد، يعني يجب أن أذهب رغم أنف الرقابة!
العقبة الأخرى كانت أمي، رحمها الله، تلك القروية المحافظة والمتعلقة بي بشكل أعمى لأنني صغرى بناتها، فلم تكن تسمح لي بالاغتراب لا في فلسطين ولا في غيرها لأنها لا تتصور أن أبتعد عنها ولو ليوم! وتتوقع تماما أنني إن دخلت فلسطين فلن أعود وأنني أتحجج بالدراسة لأغراض أبعد!.
دعيت إلى عرس زميلتي في الكلية. كان أبوها يعمل في وزارة الأوقاف وكان خارج البلاد عندما وقعت حادثة حفل التكريم. صافحت العروس التي كانت تعلم بنواياي في الدخول إلى فلسطين وأنا مبتسمة: مبرووك!، عبست فورا في وجهي. قالت وهي تصافحني من وراء قفازات عرسها البيضاء – غادة .. أيتها المتهورة! لقد خسرت مشروعك. أي فلسطين تلك التي ستصلينها بعد ما فعلته!
لا أنكر أنني شعرت بإحباط مروع من كلماتها. قالت لي هامسة: «إسمعي أبي يريد أن يتحدث اليك».
كان رجلا وقوراً صادقاً قال لي: «أولا مبروك يا ابنتي نجاحك الباهر على مستوى العالم الإسلامي في حفظ وتجويد القرآن الكريم، لكن علي أن أخبرك بأنني عدت إلى عملي في الوزارة وكنت خارج البلاد يوم حفل التكريم لأجد الوزارة مقلوبة رأسا على عقب! إنهم يراقبونك يا ابنتي منذ أسبوعين. أرجوك انتبهي من يتولى ملفك هو من يتولى ملف الشباب العائدين من قندهار! وقد لبث في أفغانستان سبعة أعوام وعاد ليتبوأ منصباً في الوزارة ويكمل دوره الأمني! وهو قال أمامي: إنك كنت طلقة في الحديث جدا لدرجة أنه يعتقد أنك حفظته بالنص!! لأنك لم تتلعثمي، وأن أحدأً ما أملى عليك الموقف». وأضاف «إن كلامك صعقهم وأنه وقع على رؤوس كبار الشخصيات في الحفل مثل صواريخ جو أرض! وتسبب لهم بالشلل والصدمة قبل أن يتدارك الوزير الموقف! سامحيني يا ابنتي». قلت لهم إنني أعرف أهلك وأنك تعانين مسا من الجنون! وإنه يعتريك جنون مؤقت. وما حدث يوم الحفل كان بسبب هذه الحالة!
أطرق إلى الأرض متأثرا وأكمل: «لم أشأ أن أهينك يا ابنتي لكن فقط اتهمتك بالجنون لأحميك، وأنا موظف رفيع في الأوقاف وهم يأخذون كلامي على محمل الجد».
يا للهول إذن التهمة أنني من القاعدة، ولن تشفع لي المسحة اليسارية ولا اختلافي العميق مع التيار السلفي. لقد عرف الوزير كيف ينتقم!
بعدها فهمت سر شاحنة الماء ( تانكر) التي كانت تتسكع خلفي في الظهيرة وتتبعني كظلي في الحي ولفتني أنها لا تعطي الماء لأي بيت فقط تتصنع التوقف لتعبئة الماء لبيوت الحي التي لم يكن الماء قد انقطع عنها، ولا يقرع سائقها أي جرس، ولا يشغل المضخة ولا الخرطوم.
استمرت المراقبة بواسطة سيارة أجرة. المشكلة أنه حان وقت ذهابي إلى مكتب الارتباط كيف سأخرج من بوابة البيت لأنه بمجرد خروجي تبدأ الرقابة. إذن علي أن لا أخرج أبداً من بوابة البيت إلى الشارع أمام بيتنا لا بد من طريقة أخرى.
قررت أن أتنكر، وضعت حجابي بطريقة تخفي ملامحي، وغيرت حتى ساعة يدي وحذائي، وارتديت ثياب الخروج المعتادة، وسرقت من خزانة أمي الحاجة السمينة جلباباً كبير الحجم بعد أن خرجت أمامها من البيت بمظهري المعتاد، ومن ثم ارتديت جلبابها في حديقة بيتنا فوق ملابسي لكي لا تكتشفني، ولأوحي للرقابة بأنني سمينة، وأغير هيئتي المميزة بنحافتي وطولي الفارع ومشيتي الرياضية. توجهت إلى حديقة بيتنا الخلفية والتي كانت تلاصق حديقة جيراننا الخلفية، أي ظهر بيتنا لظهر بيتهم، فيما تطل الحديقة الأمامية لجيراننا على الشارع الخلفي. راقبت نوافذ جيراننا وقفزت من سور حديقتنا الخلفية إلى حديقة بيتهم الخلفية، ومشيت فيها كالبرق وأنا خائفة أن يراني أحد منهم وأنا أقفز أو يصطدم بي وأنا أتمشى بلا إذن في حديقتهم. وصلت البوابة الأمامية لمنزلهم المطلة على شارع آخر بعيد تماما عن بيتنا ولا يمر به، صدمت بعد أن مشيت قليلا بتاكسي المراقبة ففشلت محاولتي. إذن تم رصدي رغم كل شيء. قررت الاحتيال أشرت لتاكسي المراقبة وقد حفظت رجل المخابرات الذي كان يقودها عن ظهر قلب. ركبت في المقعد الخلفي وسكت لأرعبه قليلا. ولاحظت أنه تعرق من التوتر قال لي وقد بدت عليه الحيرة والتوتر: إلى أين ؟
كنت أعرف ماذا يدور في ذهنه فهو ليس متأكداً تماماً من أنني هي، لأنني أخفيت ملامحي بشدة، لكنه يشك بقوة، فإن كنت أنا، وكما يقول عني حضرة الوزير، من قندهار فقد أخطفه أو أقتله بناء على فقه بعض تلك الجماعات التكفيرية. وقد سرني أن أسقي السلطات من كأس الزور نفسه الذي تتهم فيه الأبرياء.
قلت له: إلى البنك الإسلامي لو سمحت. قال حاضر. ثم قلت مضللة: الله يخليك إياك أن تدعي أنك تعرف البنك الإسلامي وأنت لا تعرفه لتقود أكثر وتدفعني مزيدا من النقود، أرجوك لا تستغل أنني لا أعرف البلد. لقد أتينا حديثا من السعودية، وكلما ركبت سيارة أجرة يبقى السائق يقودها حتى يسجل عداد البنزين أكبر تكلفة ويدعون أنهم تاهوا. قال لي مؤكدا وقد بدت عليه خيبة الأمل لأنه توهم فعلا أن الفتاة التي ركبت معه ليست أنا: «بالطبع أعرف أين البنك الإسلامي».
أوقف سيارته قبل أن يصل إلى البنك الإسلامي بكيلو مترات وكذب علي وهو يشير إلى مبنى ضخم : «هذا هو البنك الإسلامي». ناولته النقود منتشية وأنا شامتة فيه. وما إن نزلت حتى انطلق بسيارته كالصاروخ ليستطيع مراقبتي هناك أمام بيتنا بعد أن ظنني لست أنا وأضاع وقته.
ركبت سيارة أخرى إلى مكتب ارتباط الجامعة وسجلت وعدت إلى بوابة جيراننا. قرعت الجرس وتظاهرت بأنني أرغب في شرب الشاي مع ابنتهم. شربت كوبا سريعا، وقلت لها مازحة: «هل تعرفين لن أمشي، سأقفز من السور مباشرة إلى بيتنا، هذا أسهل».
قفزت فعلا كي لا أدخل من بوابة بيتنا بثياب تنكري فيكتشفون الخدعة، خدعة مجنونة من قندهار!

كاتبة فلسطينية

“القدس العربي”