كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

من حيث المنطق السياسي الأبسط، أو حتى ذاك التبسيطي الذي يختزل الظواهر المعقدة إلى مسلمات سهلة، يمكن للمراقب المتابع لتاريخ إقليم كردستان العراق الحديث والمعاصر أن يرى في الانقسام الكردي ــ الكردي الراهن مجرد مآل طبيعي؛ أفرزته سيرورة سياسية واجتماعية وحزبية لم تكن دائماً طبيعية بالضرورة، أو حتى منطقية.
على سبيل المثال، لاح منطقياً وبسيطاً أن يطالب «الحزب الديمقراطي الكردستاني» بدوره في منصب رئاسة العراق هذه المرّة، بعد أن احتكره «الاتحاد الوطني الكردستاني» منذ تكريس قواعد المحاصصة الطائفية والإثنية التي منحت الكرد هذا الموقع حصرياً. كذلك، في المقابل، كان منطقياً أن يرفض الحزب الثاني الخضوع لمبدأ المداورة، والامتناع عن تقديم مرشح باسمه وإفساح المجال أمام انتخاب مرشح الحزب الأول؛ ففي ميادين كهذه لا يعلو أي دور بين أخوة القضية والسلاح على امتياز موقع الرئاسة، رغم أنّ صلاحيات هذا المنصب تظل محدودة وبروتوكولية.
كذلك لاح منطقياً وبسيطاً، في المثال الثاني، أن تنقلب الانتخابات التشريعية المحلية إلى ساحة اتهامات متبادلة بالتزوير، بعد أن كانت مغنماً سياسياً ودستورياً ثميناً لجماهير الكرد في الإقليم؛ واتخذ التصارع بين الحزبين الكبيرين صيغة عدائية مشحونة ذكّرت، للأسف، بالمواجهات العسكرية الطاحنة بين أربيل والسليمانية على امتداد ماضي «الحزب الديمقراطي» و»الاتحاد الوطني». وكان منطقياً، أخيراً، أن تخفت حروب الاتهام بالتزوير بعد أن حُسمت المعركة الأخرى التي شهدتها أروقة البرلمان العراقي وانتهت إلى انتخاب برهم صالح رئيساً للعراق، ليس بهمّة حزبه أو أيّ جهد كردي موحّد، بل نتيجة صفقات الكتل البرلمانية التابعة للتفاهمات الإقليمية والدولية، خاصة بين واشنطن وطهران.
وهذه حال تؤكد، مجدداً، أنّ توحيد المناطق الكردية، الذي تمّ للمرّة الأولى صيف 2006، وأنهى من حيث الشكل هيمنة الحزبين؛ لم يتجاوز في واقع الأمر مستوى الوحدة الشكلية، وظلّ ناقصاً على الأرض، ومنتقصاً في الحياة اليومية السياسية والاجتماعية. لا المحاصصة في الوزارات جسدت الوحدة، ولا نجح في تجسيدها اقتسام المناصب العسكرية على صعيد البيشمركه ورئاسة المؤسسات الكبرى في الإدارة المحلية. وكان الفشل العسكري لاستفتاء أيلول (سبتمبر) 2017 دليلاً قاطعاً، وفاجعاً، على مسؤولية القيادات جمعاء، وليس مسعود البرزاني وحده. وليس سوى تحصيل الحاصل أن تُعقد المقارنات مع استفتاء كانون الثاني (يناير) 2005، لأنّ الخلفيات السياسية، ثمّ العسكرية بالطبع، ومعها المناخات الإقليمية والدولية؛ كانت مختلفة.
كذلك فإنّ الحال الراهنة تعيد التشديد على واقع بغيض اقترن بتجربة استقلال الإقليم وأسهم في تشويه الكثير من مضامينها الوطنية الكردية ــ الكردية، وتمثل في أنّ أجهزة السلطة أخذت تميل تنتهج التفرد والقمع ومصادرة الحريات العامة وقهر الرأي الآخر؛ على نحو بات، للأسف هنا أيضاً، يذكّر المواطنين الكرد بأسوأ ممارسات الأجهزة الأمنية في عهد صدام حسين. وبالطبع، لا تغيب عن هذا المشهد وقائع الفساد داخل مختلف أجهزة الحكم الذاتي، بحماية مباشرة وتشجيع صريح من القيادات السياسية للحزبين الرئيسيين.
ويبقى أنّ الكثير من عناصر هذه المعطيات المنطقية إنما تتخذ مسارات أخرى أشدّ صناعة لمفسدة السلطة وإفساد السياسة، وذلك حين يستعرض المرء لائحة الأحزاب الصغيرة المتكاثرة حول الحزبين الكبيرين: «الاتحاد الإسلامي الكردستاني»، «الحركة الإسلامية الكردستانية»، «الحزب الشيوعي الكردستاني»، «حزب كادحي كردستان»، «حزب العاملين والكادحين في كردستان»، و»حزب الإصلاح التقدمي في كردستان»؛ فضلاً عن المجموعات الإثنية الأصغر، مثل «قائمة أربيل التركمانية»، «الجبهة التركمانية العراقية»، «حزب التنمية التركماني»، «قائمة الأرمن»، «الحركة الديمقراطية الآشورية»، و»المجلس الشعبي الكلداني السرياني الآشوري»…
وفي إقامة تناظر بين مصائر برهم صالح ــ القيادي في «الاتحاد الوطني الكردستاني»، ونائب رئيس وزراء الإقليم، ووزير التخطيط، ونائب رئيس مجلس وزراء العراق، ورئيس جمهورية العراق… ــ ثمة الكثير من خطوط الوصل والفصل بين فساد السياسة ومفسدة السلطة؛ ليس في الإقليم وحده، غنيّ عن القول، بل في كامل العراق.