كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

«الجيش يسحق الحرّية في حلب»، كان هذا هو المانشيت الرئيسي لصحيفة «الموقف الرياضي» الأسبوعية؛ الرسمية الحكومية، لأنها تصدر عن مؤسسة الوحدة للطباعة والنشر، والتي تُصدر أيضاً صحف «الثورة» و«الجماهير» و«الوحدة» و«العروبة» و«الفداء» و«الفرات»، الرسمية جميعها، بدورها. وبالطبع، لم يكن ذلك المانشيت يتحدث عن قيام جيش النظام بسحق الحرّية فعلياً، كلّ يوم، منذ انقلاب حافظ الأسد على رفاقه في 16 تشرين الثاني (نوفمبر) 1970، فذاك احتمال من عاشر المستحيلات الصحافية في سوريا آل الأسد؛ بل كان يصف نتيجة مباراة كرة قدم، فاز فيها فريق «الجيش» التابع لوزارة دفاع النظام، على فريق «الحّرية»، ثاني أندية حلب بعد «الاتحاد».
لم يمرّ ذلك المانشيت دون عقاب شديد، جرّاء الخطأ القاتل الذي ارتكبه تحرير الصحيفة، غنيّ عن القول؛ ولكنّ مغزاه، السياسي والعسكري والأمني، لم يفت، من جانب آخر، على الشارع الشعبي من أقصى سوريا إلى أقصاها. ذلك لأنّ جيش النظام ــ ممثلاً بـ»الوحدات الخاصة» بقيادة علي حيدر، و«سرايا الدفاع» بقيادة رفعت الأسد، والفرقة الثالثة بقيادة شفيق فياض ــ كان، بالفعل، يمارس حصار المدن (وبينها حلب، أكثر من سواها)، ويرتكب المجازر والفظائع، ويسحق الحرية والكرامة. ومع ذلك، كان المغزى يشمل، أيضاً، هيمنة هذا الفريق على مقدّرات رياضة كرة القدم في سوريا، ضمن معادلات أوسع نطاقاً تشمل خضوع الرياضات السورية بأسرها إلى آفات الفساد والتسلط والتمييز المناطقي والطائفي.
على سبيل المثال الأوّل، كان العميد محسن سلمان (أحد كبار ضباط «الوحدات الخاصة»)، هو الراعي، والأب الروحي، لنادي جبلة؛ المدينة الساحلية، التي يتحدر من ضياعها عدد كبير من ضباط جيش النظام وقادة أجهزته الأمنية. وكانت رعايته للنادي تتمثل في أوجه كثيرة، أوضحها ــ من حيث الدراما والمسرح، ثمّ التأثير الفعال استطراداً ــ أنه قد يختار حضور مباراة لنادي جبلة، عن طريق الهبوط بمروحيته في قلب الملعب! وتخيّل، يا رعاك الله، القشعريرة التي يتوجب أن تصيب طاقم التحكيم، وكم سيتبقى في نفوسهم من حسّ الحياد والعدل أثناء قيادة المباراة!
وجه آخر للرعاية، أكثر «وطنية» كما كان يردد العميد بنفسه: كلما آنس موهبة متميزة في لاعب فريق آخر، ويطمح طاقم تدريب جبلة في ضمّه إلى النادي؛ كان يسارع إلى استدعائه للخدمة العسكرية الاحتياطية (إذا كان قد أدى الخدمة أصلاً)، أو يلغي تأجيل سحبه إلى الجيش، أياً كانت قانونية الأسباب، ثم يفرزه إلى النادي لكي يكمل «خدمة العَلَم» برتبة… لاعب «جبلاوي»! وأمّا البُعد «الوطني» في هذا الإجراء، فهو أنّ سيادة العميد لا يخدم فريقه المحبب إلى قلبه، بقدر ما يخدم الوطن، والعَلَم! هنا يقتضي الإنصاف القول إنّ رعاة فريق «الجيش»، ومثله فريق «الشرطة»، لم يتخلفا عن الركب في هذه الممارسة؛ ولكن هيهات لأيّ منهم أن يبلغ شأو سلمان في استدعاء من يشاء، متى شاء.
والذين كانوا من هواة كرة القدم، وتفتّح وعيهم مع «الحركة التصحيحية»، في أخلاقياتها الأمنية والعسكرية والسياسية والاقتصادية والمعيشية والطائفية، خاصة بعد «حرب تشرين» 1972؛ لن تُطمس من ذاكرتهم عشرات الوقائع التي تتصل بتشوّه هذه الرياضة، وتشويهها عن سابق قصد وتصميم، أسوة بكلّ ما صار شائهاً ومرذولاً وكريهاً في ممارسات السلطة. وثمة فواصل مريرة، حقاً، لأنها كانت تدفع السوري إلى الشماتة بفريقه «الوطني» حين يخسر، ليس لأيّ اعتبار آخر سوى بغض النظام الذي يدير الفريق، وكذلك الهزء من منتخب لا يكترث بجمهوره الشعبي بقدر تهافته على إبداء الولاء لـ»القائد الخالد»، الذي يتوجب أن يُهدى إليه كلّ نصر. ولعلّ المثال الأشدّ مرارة هو تعاطف شرائح واسعة من السوريين مع منتخب العراق، ضدّ منتخب سوريا، حين توجّب أن يصعد أحدهما إلى نهائيات كأس العالم في المكسيك، 1986.
ولست متأكداً من أنّ جماهير كرة القدم السورية كانت مزهوّة بانتصار المنتخب السوري على المنتخب القطري في المباراة الأخيرة، بصرف النظر عن حجم التقدير للاعب مثل عمر خريبين (يلعب لنادي «الهلال» السعودي)، أو الفرح التلقائي لزملائه المتعاقدين مع أندية غير سورية، ويدينون في مهاراتهم إلى تدريب أجنبي، وليس إلى أيّ إنجاز تدريبي محلي. كم من أبناء سوريا سوف يرضى، اليوم، بإهداء أيّ انتصار رياضي إلى مجرم حرب؟ أو يقبل بما يقوله فادي دباس، مدير المنتخب: «سنهدي قيادتنا التأهل إلى روسيا»، و«أجمل ما في الفوز أنه تزامن مع انتصارات جيشنا البطل»؟
ثمة، بالتالي، قدم لنظام آل الأسد، تسحق سوريا منذ 47 سنة؛ وثمة كرة سورية أحبّها الشعب تاريخياً، وتعلّق بأنديتها المحلية، وجاهر بالحماس لأبطالها ومنجزاتهم. ولعلّ المرء بحاجة دائمة إلى تأمّل سيرورات التماهي الجَمْعي التي في مقدور هذه اللعبة أن تخلقها، وتوسّع من خلالها إطارات التميّز الوطني؛ ولكن ليس دون التعمق، أيضاً، في ما يشهده البلد من أزمات ونزاعات وصراعات واستقطابات، ذات صلة بالهوية، والمواطنة، والديمقراطية، والديكتاتورية.
وفي أنظمة الاستبداد والفساد كافة، وعلى رأسها نظام آل الأسد؛ ليست منتخبات كرة القدم وطنية، إلا بمعنى أنّ أجهزة القمع… وطنية بدورها!