كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

ليست قضية التمويل غير المشروع لحملته الانتخابية عام 2007 هي الوحيدة التي وضعت، أو تضع، الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي أمام القضاء في بلده؛ بل تبلغ الحصيلة عشر قضايا، حتى الساعة بالطبع، ولا أحد يعرف ما يخبئه المستقبل من مفاجآت.
بين أبرز القضايا الأخرى حسابات حملة العام 2012 (أو «قضية بيغماليون»، عن تمويل غير مشروع، ومستوى التورط فيها هو توجيه الاتهام)؛ قضية التنصت (أو «ازيبرت»، حول الفساد وإساءة استخدام السلطة، وانتهاك السرّ المهني، والمستوى توجيه الاتهام أيضاً)؛ قضية برنار تابي (ارتياب في تدخل ساركوزي، عن طريق وزارة المال، لصالح تعويض رجل الأعمال بمبلغ 404 ملايين يورو)؛ قضية كراتشي (سمسرة بمبالغ طائلة للباكستان والسعودية لقاء بيع معدات عسكرية فرنسية بغرض تمويل حملة رئيس الوزراء إدوار بالادور في الانتخابات الرئاسية، وكان ساركوزي وزيراً للمالية)؛ حوامات كازاخستان (سمسرة بخصوص عقد بقيمة ملياري يورو لقاء بيع حوامات، وكان ساركوزي رئيساً للجمهورية، والتحقيق ما يزال جارياً)؛ استطلاعات الرأي (التوصية على تنفيذ استطلاعات رأي بقيمة 9.4 مليون يورو، لاثنين من أصدقاء ساركوزي الرئيس)؛ قضية بيتانكور (بعد توجيه اتهامات شتى، بينها الاختلاس وإساءة استخدام النفوذ، لم يفلح القضاء في إثبات تهمة إساءة الضعف ضدّ الثرية ليليان بيتنكور مالكة مجموعة مستحضرات «لوريال»).
للمرء أن يسجل نقطة، مضيئة، لصالح القضاء الفرنسي الذي يتابع كلّ هذه القضايا ضدّ رئيس جمهورية سابق، واسع النفوذ ومتعدد الشبكات داخل فرنسا وخارجها، وفي أوساط اليمين الفرنسي والغربي إجمالاً. النقطة الأخرى المضيئة تذهب إلى موقع «ميديابارت» الإلكتروني المستقلّ، الذي كان سباقاً إلى فضح قضية التمويل الليبي منذ أيار (مايو) 2012. الجانب الآخر في هذه القضايا، وسواها، يخصّ مقدار سلطة الحساب التي تملكها الديمقراطيات الغربية، في النموذج الفرنسي، من حيث استعداد الساسة لانتهاك القانون أو التحايل عليه وممارسة الفساد والإفساد، في جانب أوّل؛ وتوفّر الأسانيد القانونية التي تتيح إدانة هؤلاء الساسة، خاصة مَنْ بلغ منهم ذروة الهرم في السلطة، في جانب آخر.
والحال أنّ ساركوزي يمثل نموذجاً فريداً في تاريخ الجمهورية الخامسة الفرنسية، التي دُشنت سنة 1958؛ ليس على صعيد كثرة القضايا أمام القضاء، وتنوّعها، فحسب؛ بل كذلك من زاوية العمق الدولي لدائرة الفساد، وامتزاجها بأبعاد إيديولوجية تخصّ فلسفة اليمين ما بعد الديغولي، إذا جاز التعبير. على سبيل المثال، ورغم سخاء معمر القذافي في تمويل حملة ساركوزي كما تشير اتهامات القضاء الفرنسي، فإنّ العقيد البائد لم يكن راضياً عن مشروع ساركوزي حول فكرة الاتحاد المتوسطي. لقد اعتبر المشروع إهانة، واتهم الأوروبيين بأنهم إنما يقترحون عروضاً اقتصادية لأنهم «يعتبرون دول الجنوب شعوبا جائعة» أو مصادر استثمار فقط، و«يحسبون العرب والأفارقة سذّجاً». ومع ذلك فإنّ الحقائب المحشوة بالملايين هي التي كانت تهمّ معاوني ساركوزي، أكثر بكثير من أيّ نقاش سلبي أو إيجابي حول اتحاد دول المتوسط؛ فضلاً عن أنّ العقيد كان قد أبدى استحسانه لمشروع ساركوزي، في طرابلس الغرب أولاً ثمّ في الخيمة الباريسية أيضاً، قبل أن يغيّر رأيه.
فساد مالي، لا تغيب عن أطرافه أنماط فساد إيديولوجي ـ سياسي يضرب عميقاً في جذور ما كان يُعرف باسم «السياسة العربية لفرنسا»؛ التي تُنسب إلى العقود الأولى من عمر الجمهورية الخامسة، وإلى الرئيس الأوّل فيها، شارل ديغول نفسه. أكثر من هذا، اتضح سريعاً أنّ ساركوزي (الديغولي المعلَن) لم يستأنف طبعة جديدة معدّلة من تلك السياسة، كما وعد وتفاخر خلال الحملة الانتخابية؛ بل سعى إلى طيّ تلك الصفحة نهائياً، واستبدالها بأخرى جديدة ذات شخصية مختلفة وستراتيجيات جيو ــ سياسية متعددة السمات، لكنها في العموم أقرب إلى الرؤية الأمريكية والأطلسية لشؤون الشرق الأوسط وشجونه.
وفي خريف 2007، من سدّة الاجتماع السنوي للجمعية العمومية للأمم المتحدة، فاجأ ساركوزي العالم بدفاعه عن الشعوب الفقيرة والثقافات الأخرى غير الغربية، واستخدم مفردات خطاب عالمثالثي لاح أنه باد بعد أن ساد في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. هنا بعض النماذج: «أناشد الأمم المتحدة أن تعالج مسألة توزيع الأرباح، ومكاسب البضائع الجديدة والموادّ الخام ومنافع التكنولوجيا، على نحو أكثر عدلاً. وأن تعالج قضية إدخال أخلاقية جديدة إلى الرأسمالية المالية، بحيث توضع في خدمة التنمية». وأيضاً: «العدالة تعني توفير فرص النجاح ذاتها لكلّ طفل فقير في العالم، تماماً على غرار ما يتوفر من فرص لكلّ طفل غني». ثمّ: «ارتباط المرء بعقيدته الدينية، بلغته وثقافته، وبأسلوب عيشه وفكره ويقينه، كلّ هذا طبيعي وشرعي وإنسانيّ بالمعنى العميق. وإنكار الأمر هذا يزرع بذور الإذلال. إنه يشعل نيران التعصب القومي، والتشدد المذهبي، والإرهاب الذي نزعم أننا نحاربه». أكثر من هذا، ذهب ساركوزي إلى صمويل هنتنغتون: «لا يمكن تفادي صدام الحضارات عن طريق إجبار الجميع على اعتناق اليقين ذاته، والتنوّع الثقافي والديني ينبغي أن يكون مقبولاً في كلّ مكان ومن الجميع»! وأمّا الأمم المتحدة فإنها «تجسّد ما هو كوني في كلّ الإيديولوجيات، وكلّ الأديان، وكلّ العقائد، ولهذا فإنها المكان الوحيد في العالم حيث يستطيع جميع الناس التحادث فيما بينهم، وفهم بعضهم البعض»…
ولقد تبيّن، سريعاً، أنّ هذا الخطاب سوف يفضي إلى استقبال طغاة العالم ومستبديه، أمثال القذافي وبشار الأسد، وزيارتهم في معاقلهم، وتجميل قبائحهم، وعقد صفقات التمويل هنا وهناك. ولقد تعهد ساركوزي بإعادة تأهيل النظامين الليبي والسوري في ناظر ما يُسمّى «المجتمع الحرّ»، بذرائع شتى تتراوح بين عقد قمّة الاتحاد المتوسطي بأيّ ثمن، وتشجيع الاعتدال، والنأي عن التطرّف، وتوقيع العقود. ثمّ طرح فرنسا ضامناً، مسرحياً تماماً (بدلالة زيارته الاستعراضية إلى بيروت بعد انتخاب ميشيل سليمان، صحبة قادة الأحزاب السياسية الفرنسية + الروائي اللبناني الفرانكوفوني أمين معلوف!) للسلام الأهلي اللبناني وللمحكمة الدولية. وفي زيارته إلى إسرائيل والضفة الغربية استطاب ساركوزي ربط أمن دولة الاحتلال بإقامة «نظام ديمقراطي» في فلسطين، ورأى أنّ وقف عمليات الاستيطان رهن بوقف عمليات الإرهاب، كما أطلق للسانه العنان في التغنّي بالقِيَم الكونية الإنسانية التي تمثّلها إسرائيل الدولة اليهودية. كان لافتاً، كذلك، أنّ ساركوزي تحاشى السفر إلى رام الله وفضّل أن يلتقي الرئيس الفلسطيني محمود عباس في بيت لحم، لأسباب روحية ــ مسيحية كان محتماً لها أن تجبّ الأسباب السياسية ــ العلمانية، تلك التي كانت تقتضي من ساركوزي أن يزور رام الله مقرّ الدولة.
ولكي تحمل الديغولية المزيد من مخازي ساركوزي، توجّب على اليمين الفرنسي أن يشارك في الصناعة هذه، فأقرّت الجمعية الوطنية (وكانت الأغلبية فيها لليمين)، مشروع قانون يحظر على المحاكم الفرنسية قبول دعاوى ضدّ مجرمي الحرب، إلا إذا كانوا يحملون الجنسية الفرنسية، أو كانت الجرائم المنسوبة إليهم قد ارتُكبت على الأراضي الفرنسية. وشكّل القانون ارتداداً صريحاً وفاضحاً عن تشريعات فرنسية سابقة، كما أنه تناقض مع القوانين المعمول بها في معظم الدول الأوروبية. وبدا مأساوياً أن تكون فرنسا، بلد حقوق الإنسان كما يحلو لأبنائها أن يتفاخروا، الملاذ الآمن لأصناف شتى من الطغاة والقتلة والجلادين ومصاصي دماء الشعوب.
وهكذا يمكن القول إنّ هشيم تلك «السياسة العربية» هو الذي عبّد الدروب نحو طرائق الفساد والإفساد المتعددة المتنوعة، وهو الذي يُساق اليوم أمام القضاء الفرنسي؛ طيّ القضايا التي يُتهم فيها رئيس ديغولي أسبق يدعى ساركوزي!

٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس