كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

حتى دولة الاحتلال الإسرائيلي انحنت، مؤقتاً بالطبع، أمام تخطيط الكرملين لحسم معركة درعا، فوافقت على مشاركة ميليشيات «أبو الفضل العباس» الشيعية العراقية/ الإيرانية، وأنفار من مقاتلي «حزب الله» اللبناني؛ وذلك بعد أن كان رئيس أركان جيشها غادي آيزنكوت قد أرغى وأزبد حول ضرورة انسحاب أنصار طهران من أرض المعركة، وتفويض جيش النظام السوري وحده بالدخول إلى مناطق سيطرة فصائل المعارضة المسلحة.
تلك إشارة أولى، ضمن أخرى عديدة، على مفارقة اتفاق قوّتَين كونيتَين (أمريكا وروسيا)، واثنتين إقليميتين (إيران ودولة الاحتلال الإسرائيلي)، وخامسة جارة (الأردن)، على ترقية زمرة من مجرمي الحرب وقتلة الأطفال (نظام بشار الأسد) إلى مصافّ الوكيل المحلي الذي يخدم مصالح هذه الأطراف الخمسة؛ رغم كلّ ما يفرّقها من اختلاف في مصالح أخرى جوهرية، أو بالأحرى لأنّ ذلك الاختلاف لا يفسد الودّ حول ضرورات حسم هذه المعركة.
وكانت المافيات، بما في ذلك الروسية أغلب الظنّ، سوف تتحرّج من الانقلاب السريع على اتفاق توصل إليه البيت الأبيض والكرملين (بتوافق تامّ مع رئيس وزراء دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو، للتذكير الضروري)، حول «خفض التصعيد» في محافظة درعا وبعض أطراف محافظة القنيطرة. أو كانت تلك المافيات ستراوغ قليلاً حول التزاماتها تجاه المدنيين، على أقلّ تقدير، ليس احتراماً للنفس البشرية، بل لحفظ ماء الوجه وصيانة السمعة. تلك مراوغة لم يكترث بها دونالد ترامب وفلاديمير بوتين، رغم أنّ الاتفاق ذاك كان ثمرة أوّل لقاء «تاريخي» بينهما، خلال قمة العشرين في مثل هذه الأيام من السنة الماضية.
لكنّ القوى الإقليمية والدولية ليست الوحيدة المسؤولة عن المأساة الإنسانية، ثمّ السياسية بالطبع، التي تشهدها محافظة درعا وسائر الجنوب الغربي من سوريا. حقوق البشر من أبناء المحافظة، خاصة أسر الشهداء والجرحى والمفقودين والمهجرين والنازحين، تقتضي إدانة فصائل المعارضة المسلحة، دون تردد أو مراعاة أو تبرير. لقد استسهلت وأد روحية الانتفاض الشعبي السلمي في مهده السوري الأبكر والأنبل، واستطابت الانزلاق إلى الخيار العسكري المغامر منذ العام 2012، واندفعت إلى أحضان رعاة السلاح الإقليميين والدوليين، وصار معظمها أدوات لدى غًرف التنسيق العسكري الأمريكية والبريطانية، ثمّ ما لبثت أن انخرطت في صراعات المكاسب والمواقع والامتيازات البائسة الضيقة…
هذه العسكرة هي التي تستسلم اليوم، أو هي التي تنهزم من حيث لم تنتصر البتة في واقع الأمر؛ وليس تلك الروحية التي أطلقت شرارة أولى التظاهرات السلمية، وذكّر أطفالها الدكتاتور «الدكتور» بأنّ دوره قد جاء، وقدّمت العشرات من أمثال الشهيد الطفل حمزة الخطيب. ولكنه استسلام لا يُبطل أياً من التضحيات التي قدّمها الحورانيون على كلّ الأصعدة، بما في ذلك أولئك الذين انخرطوا في الخيار العسكري عن إيمان نقيّ وليس عن مصلحة ومنفعة، وأولئك الذين انشقوا عن جيش النظام واضطروا إلى القتال دفاعاً عن الأرض والعرض والكرامة الإنسانية.
وإذا صحت التقارير الصحفية عن تفاصيل الاتفاق الذي توصل إليه المفاوضون الروس مع فصائل المعارضة المسلحة، فإنّ الحصيلة لا تؤكد على خلاصة أخرى أكثر من تأكيدها على استسلام أهل السلاح، بسهولة فاضحة هي نقيض التنافخ السابق حول منعة «الجبهة الجنوبية»، من جانب أوّل؛ وأنّ جولات التفاوض السابقة لم تفلح في تحسين بنود الاتفاق، بقدر ما حسّنت فتات ما سينتهي إليه هذا الفصيل أو ذاك، من جانب ثانٍ. أبرز الأدلة على هذا أنّ الاتفاق يتفادى الخوض في مصائر النازحين وأسر الشهداء والمطلوبين، ولا يفصّل القول في طبيعة انتشار قوات النظام وأجهزته وضمانات المستقبل.
وفي انتظار أن تُترجم على أرض حوران، وبعدها القنيطرة، التوافقات التي توصل إليها آيزنكوت مع رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة جوزيف دانفورد؛ ثمة سادة كبار يديرون ألعاب التقاسم الوظيفي هنا وهناك في سوريا، وثمة وكلاء صغار يُعهد إليهم تنفيذ المهامّ القذرة، التي يحدث أن تعفّ عنها الكواسر آكلة الجيف!