كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

صبحي حديدي

عُرف عن المحامي الفلسطيني الشهير حنا نقارة (1912ـ1984)، الذي تخرّج من كلية الحقوق في جامعة دمشق عام 1933، أنه كان يهمس في أذن السجين الفلسطيني تلك المفردة الذهبية، التي لم تكن تبعث فيه بارقة الأمل ، فحسب؛ بل كانت، أيضاً، تحثّ على العناد، وتستصرخ حسّ المقاومة: «خشّبْ!»، كان نقارة يهمس، سواء كانت القضية تخصّ فرض الهوية الحمراء على مواطني فلسطين الـ48، أو استرداد الهوية الزرقاء، أو مصادرة الأرض والبيت والبيارة…
فأية مفردة نظيرة تليق، اليوم، بالأسير الفلسطيني الذي يستأنف تراثاً طويلاً في مقاومة الاحتلال من قلب الزنزانة، وعبر طرائق شتى في المقاومة؟ الأرجح أنّ مفهوم «التخشيب» قد تطوّر كثيراً، ولعله اتخذ صياغات سياسية واجتماعية وتنظيمية، وكذلك ثقافية وفكرية، لم يكن الراحل نقارة ينتظر اكتمالها إلى هذه المستويات؛ هو الذي ظلّ منشغلاً بأولويات الجانب الحقوقي ومقتضيات قاعة المحكمة، فأبلى فيها بلاء رفيعاً سُجّل إلى الأبد في أبهى صفحات التاريخ الفلسطيني.
ذلك لأنّ الأسير الفلسطيني المعاصَر مطالب بمهامّ كثيرة، معقدة ومتراكمة ومتقاطعة، يندر أن يواجهها نظيره تحت هذا الاحتلال، وفي ظلّ هذه الشروط المتداخلة. ثمة، أوّلاً، واحد من أبشع الاحتلالات وأشرسها على امتداد الذاكرة الإنسانية؛ حيث لغة البلدوزر الذي يهدم البيت ويقتلع أشجار الزيتون والبرتقال، وحيث استيطان مسلّح يسانده جنرال محتلّ وقضاء عنصري، وحيث الجدران العازلة والأسلاك الشائكة، والمؤسسات التعليمية والثقافية المختومة بالشمع الأحمر، ومئات المبعدين والمطلوبين، وآلاف الشهداء…
وفي طبائع هذه المواجهات الكلاسيكية مع الاحتلال الإسرائيلي، السجّان والجندي والقاضي معاً؛ ثمة متطلبات العمل الوطني الفلسطيني ـ الفلسطيني، على الأصعدة كافة؛ ابتداء من تلبية شروط الحدّ الأدنى التي تكفل الصمود البشري والمعيشي، في ظلّ هذا الاحتلال البربري تحديداً، وليس انتهاء بأعباء الصراعات الداخلية والخلافات والمصالحات، بين الفصائل والقوى والكتائب؛ مروراً، بالطبع، بسلوك السلطة الوطنية الفلسطينية، في الفساد والقمع مثل الترهل والتنازل، فضلاً عن كلّ ما حملته اتفاقيات أوسلو من عواقب وأمراض.
ولا يجوز أن تغيب عن المعادلة هذه، في خلاصاتها الجدلية تحديداً، حقيقة خضوع الأسير الفلسطيني لضغوطات كبرى تستهدف صموده، أو تسعى على الأقلّ إلى عدم انقلاب هذا الصمود إلى مقاومة؛ خاصة إذا أفلحت هذه المقاومة في الامتداد أبعد من جدران الزنزانة، فبلغت وعي الفلسطيني أينما كان، وشحذت فيه روحية «التخشيب» العتيقة، دون سواها. حدث هذا مراراً، وتكرر وتنامى، بل لعله صار القاعدة بدل أن يكون الاستثناء.
وإذا صحّ أنّ الضغوط الأولى تأتي من الاحتلال الإسرائيلي ذاته، حيث تتكاثر الجهود المنهجية لتفتيت سيكولوجية الأسير الفلسطيني وتحطيم معنوياته بطرائق بالغة الذكاء والخبث، وعالية التقنيات أيضاً؛ فإنّ ممارسات السلطة الفلسطينية ـ أجهزة محمود عباس في رام الله، أو أجهزة «حماس» في غزّة، سواء بسواء ـ تمارس، من جانبها، طرازاً من الضغوطات لا تجوز الاستهانة به. فكيف إذا توجّب على الأسير الفلسطيني، في ذروة صموده ومقاومته و«تخشيبه»، أن يسمع حكايات الفساد والانحراف والميوعة، في قلب أجهزة السلطة تلك؟
وما دام تاريخ الأسر الفلسطيني يبدأ من بدايات تأسيس الكيان الصهيوني، وتوفرت على الدوام ملاحم مقاومة سطرها السجين الفلسطيني من قلب زنزانته، وثلث أبناء فلسطين عرفوا تجربة الاعتقال أو الاحتجاز أو السجن أو الأسر، على نحو أو آخر… فإنّ تواريخ الاحتلال والإخضاع هي، أيضاً وفي آن معاً، تواريخ انتفاض ومقاومة. وليس في وسع هذه المقاومة إلا أن «تخشّب»، في ذلك المستوى الشامل والاستثنائي الذي عنده يطوّر الفلسطينيون أنماط حياة تحت الحراب؛ ويستولدون تلك الأشكال الحيوية، العبقرية والإبداعية، لوجود وطني وإنساني فريد، له في أرضه ما يفعل، كما ذكّرنا محمود درويش ذات يوم.