كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

صبحي حديدي
الإنصاف يقتضي الإقرار، في المقام الأوّل، بأنّ الاستفتاء التركي خضع منذ البدء لسيرورة ديمقراطية سليمة، وفي ظلها انتهى: البرلمان صوّت على طرح التعديلات على الاستفتاء العامّ، والشعب صوّت لصالحها، ولا يعيب النتيجة ـ بالمعنى الدستوري والقانوني الصرف، أساساً ـ أنّ الفارق كان ضئيلاً، ما دامت لائحة الاستفتاء الداخلية تقرّ الأغلبية البسيطة. من السخف، في المقابل، القول بأنّ ضآلة الفارق تطعن في صدقية النتيجة حين يتصل الأمر بتعديل الدستور، فالاستفتاء استفتاء في نهاية المطاف، وقد حدث مراراً أنّ ديمقراطيات غربية عريقة عدّلت دساتيرها (أو اتخذت قرارات مصيرية كبرى، كما في نموذج انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي)، بموجب أغلبية لا تكاد تُذكر.
ليس أقلّ إجحافاً بحقّ الديمقراطية التركية المعاصرة، وأياً كانت مظانّ المرء حولها، الافتراض بأنّ الشعب التركي ملتفّ حول التعديلات؛ أو أنّ الشارع ليس منقسماً حولها، أفقياً وشاقولياً في الواقع. نسبة الـ»نعم»، مقابل نسبة الـ»لا» تؤكد هذا، أوّلاً؛ ثمّ تشدد عليه حقائق أخرى عابرة للسياسة اليومية، أو حتى اصطفافات الحياة الحزبية التركية الراهنة، لأنها ببساطة شؤون إيديولوجية تخصّ الملفّ المركزي الأكبر الذي شغل ويشغل تركيا منذ 90 سنة ونيف: العقيدة الكمالية، ما يتوجب أن يبقى منها، وما يتوجب أن يُعدّل، أو حتى يُلغى نهائياً؛ اتكاءً على سنّة الحياة، في أقلّ تقدير!
ومن حيث المنطق، أو على الأقل استناداً إلى وقائع التاريخ، ليست الحكومة التركية الراهنة هي الصيغة السياسية أو الحزبية النموذجية التي حلم بها مصطفى كمال أتاتورك حين أعلن الجمهورية، وأرادها دولة علمانية أكثر قرباً من الغرب، على أنقاض الإمبراطورية العثمانية. وكان أتاتورك قد فصل الدولة عن الدين، وأقام نظاماً تعليمياً علمانياً، ووضع النشاطات الدينية تحت المراقبة، واعتمد الحروف اللاتينية، ومنح الحقوق المدنية للنساء، بل أدخل تغييرات على طريقة الأتراك في اللباس.
إلا أن الكمالية خضعت، وتخضع، لمراجعات جذرية لا تبادر إليها القوى الإسلامية، مثل «العدالة والتنمية»، فحسب؛ بل القوى الليبرالية، واليسارية، وشرائح واسعة من المفكرين والمثقفين الأتراك المستقلين. هنالك تأكيد على طابع الكمالية الشمولي، وقوميتها المفرطة، وتناقضها مع توجهات العصر عموماً، ودمقرطة البلاد خصوصاً. والمرء يتذكر أنّ الرئيس التركي الأسبق أحمد نجدت سيزر كان، في مناسبة العيد الثمانين للجمهورية، قد رفض توجيه الدعوة إلى عدد من زوجات نوّاب «العدالة والتنمية» الحاكم، وبينهن زوجة رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان، لأنهنّ محجبات. لم يكن سيزار منتخباً عبر الاقتراع المباشر، في حينه، ومع ذلك منح نفسه صلاحية بروتوكولية قصوى؛ لعلّ الرئيس الحالي، المنتخَب شعبياً، كان سيتردد في اللجوء إليها.
الجانب السوسيولوجي، بين الأرياف والمدن، جدير بتأمّل لا يقلّ جدّية؛ إذْ أنّ المدن الثلاث الأكبر في تركيا، إسطنبول وأنقرة وإزمير، صوتت ضدّ التعديلات الدستورية بمعدلات عالية، مقابل تصويت الأرياف والأطراف الهامشية لصالحها. ثمة، هنا، ما يتوجب أن يثير قلق الحزب الحاكم، وربما معظم الأحزاب الرئيسية: حول قراءة كلّ من الريف والمدينة لمفهوم السلطة المركزية؛ وحول الوشائج العميقة، والخافية أحياناً، بين الشرط الطبقي والديمغرافي والجغرافي، وبين العقيدة وفكرة الجمهورية ذاتها.
ولا ريب، بالطبع، في أنّ التعديلات الدستورية الأخيرة تمنح أردوغان صلاحيات إضافية نوعية وطاغية؛ ولكنها، في آخر الأمر، تنطبق على شخص رئيس الجمهورية التركية، في ذاته، أياً كان، وأياً كانت عقيدته. وهي، بذلك، تطوي صفحة الشدّ والجذب الماضية، بين جمهورية أتاتورك وحجاب السيدة أردوغان مثلاً؛ لصالح أنماط أخرى من المجابهات والانقسامات والنزاعات، في المستقبل.
شريطة أن تظلّ تركيا بمأمن من الانقلاب العسكري، وأن تبقى الديمقراطية التركية… ديمقراطية!