لَطالما اعتمدت الأنظمةُ الشمولية والاستبدادية عموماً الإشاعةَ كوسيلةِ ترهيبٍ سياسي، تُبقي المواطنين رهائن لمنزلةٍ دائمة بين الشك واليقين.
فللإشاعة سطوةٌ وقدرة على إشغال المتلقّين بها وبخلفيّات انبعاثها والاختلاف حول مراميها وتفاصيلها وسبل التعامل معها، بما يجعلها على الدوام حاضرةً كاحتمالٍ ومُتناقَلة همساً كَسِرّ أو كخشيةٍ أو كمنطلقٍ لإشاعات إضافية تُبنى عليها.
وهي بهذا المعنى سلطةٌ في ذاتها، تبعث الريبة بين مردّديها وتُغوي سواهم بنقل «الممكِن المُستغرَب» الذي تبثّه؛ يتسبّب تحقّقها إن حصل بالخوف المستقبلي من شبيهاتها، ويترك تعذّرها الغالب أو اختفاء أثرها باباً للتحليل والقلق من التبعات.
فوق ذلك، يُثير الجهل بمصدر الإشاعة وآليات تعميمها وتبدّل صيغها مع تعرّج مسارات انتقالها فضولاً يمنحها هالةً ووقعاً إضافيّين وينسبها إلى جهات نافذة، أو يرى فيها مقدّمة لصراعات أو لإجراءات غامضة تُبقي التوجّس والانتظار السلبي عاملين أساسيّين في العلاقة مع الشأن العام وأحواله.
وكلّ هذا يخلق مناخ عيشٍ تزول فيه الحدود دورياً بين الإشاعة والواقع ويسود الارتياب والتشكّك بالآخرين، ولا يبدو حقيقياً في آخر المطاف سوى ما يمارسه النظام الشمولي أو الاستبدادي وما يقدر عليه.

الاشاعة في زمن التواصل الاجتماعي

أتاحت وسائل التواصل الاجتماعي أسرع تناقل ممكن للمعلومة أو للمقال أو للحدث. لكنها أتاحت أيضاً أسرع تناقل ممكن للإشاعة، إذ يكفي ضغط زرّ تشارك لتنتقل الإشاعة هذه من صفحة إلى صفحة ومن موقع إلى آخر بما يثبّت حضورها في محرّكات البحث الرقمية حيث تُنافس سواها من إشاعات أو من أخبار محقّقة، جاعلة كلّ «حقيقة» نسبية، وزارعة الشك في صدقية أيّ خبر.
واستفادت الأنظمة الشمولية والاستبدادية بدورها من الأمر، لا بل أنها طوّرته لتبدو شائعاتها حول المؤامرات والمكائد وشابكيها وحول الخصوم والمريدين ذات مصداقية تُثبتها مراجع وصفحات كتب وروابط لمواقع صحف و»إعلام بديل»، تتبنّى الإشاعات إيّاها وتضاعف من انتشارها.
هكذا مثلاً تُنسب عمليات قصف النظام السوري بالكيماوي لغوطة دمشق الشرقية إلى مجموعات مسلّحة أرادت استدعاء تدخّل دولي ضدّه، وتُبث شائعات حول تصريحات هذا الخبير الدولي أو ذاك لتأكيد النسب المذكور. وهكذا يُنقل عن كتابٍ لهيلاري كلينتون (مع ذكر صفحة وهمية) أنها اعترفت بدعم بلادها لتأسيس «داعش» وتعاملها مع «الإخوان المسلمين» لتسهيل هذا التأسيس. وهكذا أيضاً ينقل موقع عن موقع آخر شبيه به – بِلُغة أو من جنسية مختلفة تُضفي المزيد من «الصدقية» – خبراً عن أدوار دول وأجهزة مخابرات وأفراد في أفعال تحصل بما يُغذّي نظرية المؤامرة حولها ويُدخل الشك حول أي رواية «عادية» لا أسرار خطيرة تفسّر مُجرياتها.

الإشاعة كسلاح سياسي دولي

تحوّلت الإشاعة في العقد الأخير إلى سلاح فعّال في العلاقات الدولية. وبرزت روسيا بشكل خاص كمستخدم لهذا السلاح ثم كمعتمد له كواحد من أمضى عتادها في مواجهة خصومها لضرب سرديّاتهم وإيهان رواياتهم للأمور.
وقد حوّلت موسكو الإشاعة من سياسة داخلية تعتمدها لإبقاء الخوف الرمزي مسلّطاً على مواطنيها إلى سياسة خارجية لم تكتفِ فيها بتشجيع حلفاء لها وتعزيز إعلامهم ومواقعهم، بل بادرت أيضاً إلى تأسيس إعلام جديد ومحطّات تلفزة خاصة بها تحتلّ الإشاعة و»الحقائق البديلة أو المضادة» حيّزاً هاماً في مقارباتها وتغطياتها للأخبار وللقضايا الخلافية الدولية الراهنة.
واستفادت روسيا في سياستها هذه من عاملَين شديدَي الأهمية.
الأول، ضعف الثقة في الكثير من أرجاء العالم – وفي الغرب نفسه – في الإعلام «المينستريم»، واعتباره خاضعاً لاعتبارات مالية ولمصالح سياسية تُملي أخباره وسياق تعامله مع الأحداث والمسائل المثارة وطنياً وإقليمياً ودولياً. ويتصاعد ضعف الثقة هذا كلّ ما كان الإعلام أمريكياً أو ذا صلة بالأمريكيّين.
والثاني، تراجع الاحترام في معظم بلدان العالم للنخب السياسية ولما يُسمّى «الاستبليشمنت» ونموّ الخطاب الشعبوي الذي تحمله تيّارات اليمين واليسار المتطرّفين، كلٌ لأسبابها وغاياتها، وما ينتج عن ذلك من تشكيك مُسبق بِما يصدر عن المؤسّسات القائمة والقيّمين عليها.
وبنى الروس على العاملين المذكورين سياسة إعلامية تقوم على ثلاثة أُسس. أوّلها بثّ الريبة حول كلّ ما يصدر في الغرب، واستغلال سابقة كذب وزير الخارجية الأمريكية الأسبق كولن بأول في مجلس الأمن الدولي العام 2003 حول أسلحة الدمار الشامل العراقية لتبرير الحرب على العراق، للقول إن كلّ اتّهام لنظامٍ حليف لموسكو بارتكاب جرائم إنما هو استمرار للكذب نفسه ومقدّمة لشنّ حرب على النظام المعنيّ تعود بالمنفعة على واشنطن وعلى صناعة الأسلحة فيها. وثاني الأسس هو إغراق سوق الأخبار بالشائعات والمعلومات المبنيّة رواياتها على تفاصيل دقيقة تُدمج بمغالطات وتركيبات يُقصد منها إسقاط كل مصداقية عن أي خبر منتشر وإنهاء الحدود بين «الحقيقي» و»الملفّق» فيه. والثالث، بناء مقاربة إعلامية مضادة، تعتمد أسلوباً حديثاً وحيوياً في التقديم وفي إعداد البرامج والتحقيقات، وتبتعد عن الأسلوب السوفييتي القديم ولغته العقائدية وصيغه المونوتونية، وتأتي بموظّفين وإعلاميّين من الغرب المعادي إيّاه، لتمرّر بعد ذلك «حقيقة مضادة» تواجه ما يقدّمه الإعلام «المينستريم» في أبرز العواصم الأوروبية وفي الولايات المتّحدة الأمريكية.
بهذا، لا يهمّ روسيا أن يصدّق الجميع ما تزعمه في إعلامها الجديد. يكفي أن لا يصدّق كثرٌ خصومها، وأن تصبح «الحقيقة» في ما خصّ الصراعات والجرائم وانتهاكات القانون الدولي «نسبية» ليتحقّق قسم من مرادها. ويكفي أن تنافس الشائعات الوقائع ليضيع كل رأي عام بين الروايات المتنابذة ويبتعدُ الكثيرون عن متابعة القضايا «الشائكة» المُشكّك بأي تغطية لها، مبتعدين بالتالي عن الموقف منها وعن الانحيازات الأخلاقية والسياسية تجاهها.
الشائعة إذن تحوّلت من أداة تخويف وتشكّك دائمين تُعينان أنظمة حكم دكتاتوري على تطويع مواطنين وإبقائهم معلّقين بانتظار وضوحٍ قلّما يتحقّق إلى سياسة تتخطّى الحدود الوطنية وأجهزة مخابراتها ودعايتها. صارت استراتيجية تقويض للحقائق ومدعاة تشكيك بالديمقراطية وجدواها وبمؤسّساتها وصحافتها انطلاقاً من استغلال مكامن ضعفها ومثالب بعض نخبها، وهي بالطبع كثيرة، وربط كلّ ما يصدر عنها بخيط رفيع يوصل إلى واشنطن و»كتل الضغط» فيها. والأخيرة يستحيل – بمعزل عن الشائعات ونظريات التآمر – التغاضي عن عدوانية سياساتها في العديد من بقع العالم.
وكلّ هذا لا يبدو مقبلاً على الانحسار في المستقبل القريب. العكس هو المرجّح، فالجهات والتيارات السياسية المستفيدة منه كثيرة، كثرة الأزمات والشائعات المنبعثة اليوم من حولها…