يتكلم إدوارد سعيد في «الاستشراق» على «المخبر المحلي» الذي يزود المستشرق القادم من الغرب بمعلومات عن مجتمع «شرقي» يعرضه الدارس الأوروبي «مدروساً» إلى مجتمعه هو. تبطن العلاقة بين الاثنين علاقة سلطة، هي القائمة أيضا بين مجتمعين، علاقة يشغل فيها دارس الشرق الغربي موقع الطرف المتمكن الذي لا يطرح الأسئلة فقط، ولكن يقرر أيضا صلاحية الإجابات وملاءمتها. المعرفة المتحصلة يصعب أن تنجو من تأثير علاقة السلطة هذه.
فوق ذلك، في أيام الاستشراق التقليدي، كان يحتمل الأمر تواطؤات بين الطرفين، فيكون المستشرق «وطنيا» وسيئ النية، وتكون علاقة السلطة علاقة استعمار في الواقع، ويستدرج المخبر المحلي إلى صفه أو يكون هذا شريكا له في سوء النية سلفا. وهذا أحد أسوأ أوجه العلاقة الاستشراقية، وكان شائعا أن تكون في خلفيته أسباب سياسية أو دينية أو إثنية. الاستشراق أصلا «نظام معرفي» يقوم على خصوصية شرقية مكنونة في الدين والثقافة، ولديه بحكم تكوينه هذا انجذاب خاص إلى قضايا الأديان والطوائف والإثنيات. علاقة السلطة الاستشراقية لا ترتد إلى علاقة دارس عارف ومسنود ببيئة غافلة، بل تتعداه إلى احتمال أن يكون المستشرق وكيلا استعماريا، يعمل على خلق وحدة حال بينه وبين المخبر المحلي، مساهما في تفكيك وحدة الحال بين المخبر المحلي ومجتمعه.
ولم يكن الاستشراق بحكم تكوينه وملابسات نشوئه وموضوعه النوعي (الشرق كعالم ديني وثقافي خاص) قادراً على إصلاح ذاته أو نصب حواجز تحول دون أسوأ أشكال استغلال المعرفة للسيطرة على المجتمع المدروس والتحكم بمستقبله. اقتضى الأمر مقاومة «الشرقيين»، ليس السياسية وحدها، ولكن المعرفية كذلك. عمل إدوارد سعيد مهم من حيث أنه كان مقاومة معرفية، دفعت المستشرقين إلى النظر في وضعيتهم وأدواتهم وخطاباتهم، وعلاقات السلطة المتضمنة في عملهم. الاستشراق كمبحث خاص مات بقدر كبير بفعل هذه الضربة. لم يعد هناك مستشرقون اليوم، هناك مختصون غربيون في جوانب من حياة وتاريخ مجتمعات معاصرة، يتوسلون أدوات العلوم الإنسانية لدراستها، لم يكد يبقى من يُعرّفُها بأنها «شرقية» أو يحبسها في خصوصية ثقافية لا تتغير. الشرق نفسه مات (وعقبى للغرب). هناك مجتمعات متنوعة، تتشابه وتختلف، لكن ليس هناك «شرق».
ماذا جرى للمخبر المحلي؟ لم يُلحظ الأمر، هو أصلاً نكرة، تابع في علاقة سلطة تتحكم به ولا يتحكم بها. كان في عز الاستشراق ظلاً للمستشرق، يظهر ويزول حسب الطلب، فلم يلحظ اختفاؤه مع نهاية الاستشراق.
لكن المخبر المحلي يعرض اليوم وجها مختلفا، مع ظهور ما يمكن تسميتها وضعية استشراقية جديدة، وانشغال متجدد وملتهب بـ»الإسلام» بعد «الربيع العربي». ليس مخبر اليوم مساعدا لمستشرق أو اختصاصي غربي. إنه غالبا مقيم في عواصم بلدان غربية، ينجح بطريقة ما في جعل نفسه لازما لمراكز قرار في هذه البلدان، وزارات خارجية أو دفاع أو لجان برلمانية أو جهات ممولة. يستأنف عمل المخبر القديم الذي يساعد المستشرق في توفير معلومات ومعطيات مغرضة عن المجتمع الذي ينحدر منه. مغرضة لأن القوالب الاستشراقية التي تفكر في أديان وجماعات دينية إثنية تعاود الظهور، وتوجه الأذهان في هذا الاتجاه. وتتراجع بالقدر نفسه الإنسانيات التي تستخدم لدراسة مجتمعات الغرب (وهي تعاني من أزمة أصلاً اليوم في الغرب نفسه). المخبر الأهلي يعمل في هذا الإطار السياسي والمعرفي، دوافعه الشخصية والجمعية المحتملة تعزز الإطار الذي يمكن تعريفه، أي المخبر، باندراجه ضمنه دون اعتراض. الاعتراض المحتمل ينتهك الوضعية الاستشراقية ككل، ويلغي دور المخبر الأهلي.
يرتفع الطلب على معلومات المخبر الأهلي وخبرته في أوقات الأزمات بصورة خاصة. مؤهله الأبرز أنه «أهلي»، ويتكلم «اللغات الشرقية». وهو «أهلي» بكل معنى الكلمة، عمله يتصل بالتمايزات الأهلية في بلده، تسييسها وسبل استخدامها. المخبر الأهلي السوري مثلا مزدهر السوق اليوم في عواصم الغرب، يقدم ما يلزم من معلومات ومشورة توافق هوى دوائر نافذة في بلدان الغرب. من يقاوم هذا الهوى يجد نفسه مهمشاً ولا يُستمع له. ينبغي أن يكون المخبر الأهلي مخلصا لـ»القضية الغربية».
لكن المخبر الأهلي أداة، ليس هو من يصنع الطلب على ما يعرض من معلومات و»تحليلات»، بل مراكز قرار في البلدان المعنية والوضعية الاستشراقية المتجددة الظهور. وهذه يتحدد طلبها بأوضاع خاصة في بلد المخبر الأهلي، وبالحاجات الظرفية لتلك المراكز. ولذلك فإن عمر المخبر الأهلي قصير، شهور أو سنوات قليلة. نجوم المخبرين الأهليين، ومنهم مثلا من كان لهم دور مهم في الغزو الأميركي للعراق عام 2003، انتهت صلاحيتهم خلال سنوات قليلة. الأمر لا يتحدد بانتفاء الحاجة إليهم بعد حين وجيز بفعل التغيرات السياسية التي ولدت أصلا الحاجة إليهم، ولكن كذلك لأن هؤلاء قلما كانوا منتجين لمعرفة خاصة، مستقلة عن وظيفتهم في «الإخبار» عن «الأهل». فإن صادف أن كان واحدهم صحافياً أو كاتباً أو أكاديمياً…، فهو من درجة متدنية.
وقد نكون فكرة أنسب عن المخبر الأهلي بتشبيهه بالمخبر للأجهزة الأمنية في بلدنا، سوريا. يحصل لهذا أيضا أن يكون كاتباً أو أكاديمياً أو صحافياً… لكن بضاعته لا تكاد تنفق عند غير الأجهزة الأمنية.
وليس تواضع التأهيل وحده ما يقرب المخبر الأهلي من المخبر الأمني عندنا، بل كذلك الصفة السرية. ليس ما يقوله المخبر الأهلي للجهات التي تستهلك خدمته في بلدان ديمقراطية مما يعلَن وينشر في الصحف أو أية منابر عامة. إنه «تقرير»، شفهي أو مكتوب، يتحرك في مساحة التقاطع بين طلب عارض للجهة المستهلكة غير المبرأة من الغرض وبين مصلحة المخبر الأهلي وروابطه الأهلية.
هذه التقديرات عن المخبر الأهلي محتاجة دونما شك إلى معطيات تفصيلية، إلى إحاطة أوسع بسير مخبرين أهليين، وإلى اطلاع على الأرشيف والمعلومات المخزنة عند وزارات الخارجية والدفاع وأشباهها. في بريطانيا وفي فرنسا، في أمريكا وفي كندا، وفي بلدان متعددة، يمكن للمرء استحضار أسماء مخبرين ومخبرات أهليين سوريين، يبدو أن دورهم لم يكن ضئيلاً. وفي غياب معطيات موثوقة كافية أجازف بتقدير أن دور المخبر الأهلي السوري في أمريكا وأوربا بالغ السوء، ولا يبعد أن يكون بعض المخبرين الأمنيين في إطار العلاقة الأهلية المحلية ارتقوا إلى مرتبة مخبرين أهليين في إطار العلاقة الاستشراقية المتجددة. المؤكد أنه ليس هناك مخبر أهلي سوري في بلدان الغرب كان معارضاً جدياً للنظام الأسدي.
وقد يفكر المرء في تحول مزدوج يكمن وراء وحدة المخبرين في السياق السوري: في الداخل العلاقة بين الحاكمين والمحكومين كانت تتطور في اتجاه استعماري، يشغل ضابط المخابرات موقع المستشرق العامل في الإدارة الاستعمارية، ويشغل المخبر الأمني موقع مخبر أهلي؛ وفي الغرب تحول أمني متزايد يطرأ على دول قومية توقف توسع الديمقراطية فيها، تعاني اليوم من ضغط اللاجئين ويراودها شبح «الإرهاب الإسلامي» وتراوده، فتحتاج إلى مخبرين أهليين مقيمين.

ياسين الحاج صالح

القدس العربي