كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

حين كانت الحملة الانتخابية على أشدها في الولايات المتحدة، خاض المرشح الجمهوري دونالد ترامب معركة تغريدات شرسة على موقع «تويتر»، مع الوليد بن طلال، الأمير السعودي الذي يقدّر مؤشر بلومبيرغ ثروته بـ19،2 مليار دولار. خلال تلك «المعمعة»، استخدم ترامب صورة مزوّرة بالفوتوشوب للتشهير بالأمير، فغردّ الأخير بأن المرشح الجمهوري «عار» على أمريكا. المثير أنّ التاريخ يحفظ للرجلين سجلاً مختلفاً وطيلة سنوات منذ 1991، حين كان التعاون المالي والاستثماري وثيقاً بينهما؛ فاشترى الأمير من ترامب يختاً بالغ الفخامة، ثم حاز على أغلبية أسهم فندق بلازا في نيويورك (بحيث أنقذ ترامب من غائلة ديون بقيمة 125 مليون دولار).
ولأنّ التاريخ يستهوي استعادة الوقائع في صورة المهزلة، بين حين وآخر، فإنّ ترامب انقضّ على نبأ اعتقال الوليد بن طلال، معرباً عن ثقته بولي العهد السعودي محمد بن سلمان، ليس دون الغمز من قناة أمراء «حلبوا» بلادهم طيلة سنوات! وذلك، غنيّ عن القول، قد لا يكون خلاصة الموقف الرسمي الأمريكي من جولات الاعتقال التي تشهدها السعودية منذ أسابيع، وبلغت مؤخراً ذروة غير مسبوقة حين شملت العشرات من الأمراء والوزراء والمتنفذين وكبار رجال الأعمال السعوديين. أو، على أقلّ تقدير ليست رذيلة «حَلْب» البلد هي التي كانت في ذهن ريك تيلرسون، وزير الخارجية الأمريكي، حين اعتبر أنّ «حملة» بن سلمان «تثير القلق» و»لا تزال غير واضحة».
ومع ذلك، وحتى تتصف «الحملة» بمقدار من الوضوح يتيح للإدارة الأمريكية اتخاذ موقف صريح، فإنّ الارتياح الضمني (أو بالأحرى معدّل الحدّ الأدنى من «قلق» الإدارة، فضلاً عن تغريدة الرئيس شخصياً)؛ لا توحي، جميعها، بأنّ واشنطن بصدد تعكير صفو إجراءات ولي العهد السعودي. ثمة سبب أوّل، هو أنّ أمثال بن طلال قد «حلبوا»، في المملكة ذاتها، أو هنا وهناك في بلاد الله الواسعة؛ وأمثال ترامب (صحبة فلاديمير بوتين وأنغيلا ميركل وتيريزا ماي وإمانويل ماكرون…) شربوا من حليب المملكة، عبر عقود تسليح واستثمارات بعشرات المليارات؛ وأمّا بن سلمان فقد كان هو الذي ضرب! سبب ثانٍ، قد يكون وشيك الاتضاح قريباً، هو أنّ «حملة» كهذه إنما تثبّت أركان ملك آت، لا ينخرط لتوّه في حروب إقليمية دامية، عسكرية واقتصادية وجيو ـ سياسية، تخدم أمريكا ومصالحها، فحسب؛ بل هو مشروع تحريض، وتمويل ومشاركة، في هندسة حروب أخرى مقبلة.
وليس من المبالغة المفرطة أن يرجح المرء إمكانية العون اللوجستي، المباشر أو الوسيط، الذي قد تكون أجهزة الاستخبارات الأمريكية قد قدّمته إلى محمد بن سلمان، خلال تنفيذه اثنتين على الأقلّ من أكثر ضرباته حساسية وحسماً، ضدّ خصوم/ مؤسسات، وليسوا محض أفراد/ أمراء فقط: محمد بن نايف، ولي العهد السابق، وأجهزة وزارة الداخلية التي كانت في قبضة يده وتحت نفوذه شبه المطلق؛ ومتعب بن عبد الله، وزير «الحرس الوطني» السابق، والقائد الفعلي لجيش الظلّ عالي التجهيز والتسليح والتدريب، الذي يعدّ 100 ألف عنصر عامل، و60 ألف احتياط. صحيح أنّ المملكة لا تعرف ثقافة العصيان أو الانقلاب، ولكنّ حملات الاعتقال أو الإقامة الجبرية أو تجميد الأموال… ليست من طراز عادي، يبيح للمرء أن يعتمد رفاه المنطق العادي.
هذا إذا افترض المرء، إياه، أنّ ما جرى ويجري ليس انقلاباً في الأصل، ينقلب بمواجبه ميزان تقاسم للسلطة وللثروة بين الأمراء، عمره من عمر المملكة؛ ويفصم العرى الوثيقة في تحالف ثنائي عتيق، بين مملكة آل سعود ومؤسسة محمد بن عبد الوهاب؛ كما يضرب الوئام الائتلافي بين الأمير والمطوّع والتاجر… هكذا، دفعة واحدة!