سوف يمضي بعض الوقت قبل أن تتضح تماماً لائحة المواقع التي استهدفتها الضربة الثلاثية، الأمريكية/ الفرنسية/ البريطانية، في سوريا فجر أمس؛ وما إذا كانت قد اقتصرت على منشآت وترسانة الأسلحة الكيميائية للنظام السوري كما تقول بيانات الدول الثلاث، أم شملت أيضاً بعض وحدات الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة كما أشارت بعض التقارير.
الأرجح، وفق المنطق الأبسط لقراءة هذه الضربة، أنها صُمّمت لكي تكون محدودة النطاق، ومنحصرة بالفعل في خدمة رأي عامّ داخلي، أوروبي وأمريكي، رغب في معاقبة النظام السوري على استخدام الكلور، والسارين حسب تقديرات متقاطعة، في مدينة دوما ومواقع أخرى قبلها على امتداد الغوطة الشرقية. والرسالة هنا لم تكن جلية تماماً، ومحددة ودقيقة، فحسب؛ بل كانت معلنة منذ البدء، وتعاقب تكرار إعلانها طيلة أسبوع أعقب مجزرة دوما وابتداء خطاب التلويح بالضربة. بهذا المعنى فإنها لم تشكل مفاجأة لأحد، ولم يُقصد منها أن تفاجئ أحداً أصلاً؛ بل يجوز القول إنّ التريث سبعة أيام قبل تنفيذها كان يمنح روسيا وإيران فرصة كافية لإخلاء قواتهما من المواقع التي كان قصفها متوقعاً أو محتوماً، وذلك لتفادي أي استهداف غير مقصود لتلك القوات؛ الأمر الذي عنى أيضاً، واستطراداً، استفادة النظام السوري ذاته من محاسن مهلة التأجيل.
صحيح أنّ بعض الأذى يمكن أن يكون قد لحق ببعض منشآت تصنيع الأسلحة الكيميائية في جمرايا أو السفيرة أو برزة أو الرحيبة أو الكسوة… ولكنّ هذا الـ»بعض» لا يشمل الـ»جميع» بالطبع، من جهة أولى؛ كما انه لن يمنع النظام من إعادة صيانة تلك المنشآت، وإعادة تشغيلها، وتصنيع المزيد من القذائف الكيميائية واستخدامها مجدداً، من جهة ثانية. كذلك، في البُعد التالي الأخطر من الرسالة، يفهم النظام ــ كما فهم في الماضي، مراراً وتكراراً ــ أنّ خطّ المحرّم الأحمر هو استخدام الكيميائي؛ ولا حرج في استخدام البراميل المتفجرة أو النابالم أو القنابل الانشطارية والعنقودية أو أيّ سلاح آخر محرّم دولياً، ولكنه لا يندرج في الصنف الكيميائي.
وصحيح، إلى هذا، أنّ الرسالة قد تصل إلى الجمهور الروسي على نحو يخدش صورة سيد الكرملين القوي، وينتهي إلى بعض ما استخلصه السفير الروسي في واشنطن، أناتولي أنتونوف، من أنّ الضربة تُعتبر «إهانة للرئيس الروسي»؛ ولكن لا يخفى، إلا على السذّج والحمقى، أنّ تنسيقاً تاماً جرى مع موسكو بصدد كلّ تفصيل لوجستي يُبعد الوحدات الروسية عن الأذى، وأنّ «كرامة» فلاديمير بوتين حُفظت تماماً. وليس بغير مغزى أنّ وزارة الدفاع الروسية أعلنت أنّ «أياً من الصواريخ العابرة التي أطلقتها الولايات المتحدة وحلفاؤها لم يدخل منطقة مسؤولية الدفاعات الجوية الروسية التي تحمي المنشآت في طرطوس وحميميم».
ضربة علاقات عامة، إذن، تحفظ ماء وجه زعماء أمريكا وفرنسا وبريطانيا، بصدد محظور واحد وحيد في مأساة مفتوحة منذ سبع سنوات ونيف، حظي فيها مجرم حرب مثل بشار الأسد بأنماط شتى من صمت الديمقراطيات الغربية، أو سلوك الجعجعة اللفظية، أو تكتيك التواطؤ المباشر، أو ستراتيجية التفرغ لمحاربة الإرهاب تماماً على النحو الذي خطط له النظام. وفي الغضون، كانت قوى من كلّ حدب وصوب ــ إيران وميليشياتها المذهبية، «داعش» والجهاديون، موسكو وأنقرة ــ تتولى الفتك بالشعب السوري، واحتلال أرضه وسمائه، وتحويل البلد إلى سلسلة محميات واحتلالات. وليست، البتة، مفارقة طارئة أن تكون الصواريخ الإسرائيلية، التي استهدفت عشرات المواقع داخل سوريا، هي السابقة على صواريخ أمريكية وفرنسية وبريطانية لاحقة.
ومن الطريف أنّ هذا العقاب المسرحي المعلَن استولد ذلك التوازي الكاريكاتوري المعلَن أيضاً، بين مؤيدي الضربة (لأنها تؤذي النظام) ورافضيها (لأنها تؤذي السلام)، وكأنّ الضارب لا يتساوى مع المضروب في الشراكة عن المأساة الأمّ؛ في طول سوريا وعرضها، وليس فقط في دوما وخان شيخون وزملكا وعين ترما وعربين…