الياس خوري

وقف طلال سلمان خلف مكتبه، وضع الشال حول عنقه، مشى صوب زر الكهرباء، أطفأ الضوء، ومضى. هذا هو الفيديو الذي يراه القراء على موقع جريدة «السفير» اللبنانية اعلانا باقفال الصحيفة.
وكان «الوطن بلا السفير»، هو المانشيت الذي طلعت به «صوت الذين لا صوت لهم»، معلنة نهاية حقبة كاملة في تاريخ الصحافة اللبنانية.
الوطن يصير عمليا بلا صحافة مكتوبة، «النهار» تعيش احتضارها الطويل والمتمادي، «المستقبل» تموت، أو تنضم إلى الصحف شبه الميتة التي تملأ السوق، وكل البنية الصحافية بأمجادها القديمة التي جعلت من بيروت في زمن مضى عاصمة للصحافة العربية ووريثة الصحافة المصرية، تتآكل وتتعفن، وتصير حكاية مليئة بالأسى والخزي.
مئات الصحافيين يجدون انفسهم عاطلين عن العمل، ولا من يدافع عن حقهم في الحياة الكريمة. نقابة الصحافة مخصصة لأصحاب الصحف الذين يهربون من الميدان بما خف حمله وغلا ثمنه. ونقابة المحررين لا تزال مكبلة بإرث ملحم كرم الذي حولها الى نقابة اضافية لأصحاب الصحف.
قيل ويقال وسيقال الكثير عن الأزمة المالية وأزمة الاعلانات وضمور الصحافة الورقية في العالم والانترنت ووسائل الاتصال الجديدة، كلها أسباب وجيهة ويمكن مناقشتها، لكنها ليست السبب الحقيقي في هذه الميلودراما الصحافية اللبنانية التي تثير الأسى بمقدار ما تثير السخرية.
كما قيل وسيقال عن المال السياسي، وكيف استغنت دول النفط عن الصحافة اللبنانية بعدما نجحت، ومن خلال عدد كبير من الصحافيين اللبنانيين، في تأسيس صحافتها المكتوبة، التي صارت اليوم هي الصحافة الوحيدة المهيمنة في المشرق العربي، وهذا أيضا صحيح، لكنه ليس كافيا كي يقود إلى هذه الميتة الشنيعة والمهينة التي تتعرض لها الصحافة اللبنانية.
المسألة ايها السيدات والسادة تنقسم إلى نصفين:
نصفها الأول اسمه دور بيروت السياسي والثقافي والاعلامي. ففي مدينة قام سياسيوها بالغاء السياسة فيها، وفي زمن الخراب العربي الشامل الذي ارتسمت أولى ملامحه في حرب لبنان الأهلية، لم يعد لبيروت أي دور.
الصراع الذي دار حول هوية المدينة بعد انتهاء الحرب الأهلية وفرض هيمنة المخابرات السورية على لبنان، كان صراعا من أجل تأسيس دور جديد للمدينة مثلته الحريرية بمشروعها الاقتصادي، وجسده حزب الله بمشروعه الحربي. الاقتصاد النيوليبرالي الذي اسسته الحريرية كان جوهره تحويل بيروت إلى مدينة خدمات للدول النفطية، اما مشروع حزب الله العسكري، فكان يهدف الى تحويل لبنان الى ساحة مواجهة في خدمة مشروع سياسي إيراني- سوري.
تعايش المشروعان طويلا في ظل معادلة التوافق السورية -السعودية، رغم تناقضاتهما الكبيرة. لكن الانفجار الدموي لهذا التناغم عِبر اغتيال رفيق الحريري، حوّل قضية المواءمة بين المشروعين عملا بالغ الصعوبة.
المهم أن هذين المشروعين اللذين لا يزالان يمسكان بتلابيب السياسة اللبنانية متفقان على أن لا دور لبيروت سوى أن تكون صدى. لقد انتهى زمن الاحلام الكبيرة، زمن كمال جنبلاط والحركة الوطنية، وجاء زمن اقزام الطوائف الذين لا يرون للعمل السياسي سوى وظيفة واحدة اسمها النهب.
عندما تصير السياسة صدى، وتنغلق في لعبة الطوائف، تفقد الصحافة معناها السياسي والفكري والثقافي، ويحتل المشهد الاعلامي نمط تلفزيوني قائم على الفضائح والاثارة والسفاهة.
صحافة بيروت تموت لأن الطبقة السياسية قتلت بيروت وحولتها الى مزيج غريب يجمع الدعارة الى الاصولية المتشددة، في معادلة لا تعقلها سوى «الأعجوبة اللبنانية».
ونصفه الثاني اسمه بنية الصحف اللبنانية. لا يستطيع المراقب سوى أن يلاحظ كيف تموت الصحف مع موت مؤسسيها، «دار الصياد» العملاقة ضمرت مع موت سعيد فريحة، «الحياة» ماتت مع موت كامل مروة قبل ان تبعث من جديد على يد الأمير السعودي خالد بن سلطان، «الحوادث» اختفت بعد الاغتيال الوحشي لمؤسسها سليم اللوزي، «الكفاح العربي» ماتت بموت رياض طه…
علاقة الحياة والموت بين الصحيفة ومؤسسها تشير إلى بنية حِرَفية فردية قد تتخذ شكلا بطريركيا، منعت المؤسسات الصحافية من الاستمرار. حتى « النهار»، لا تشذ عن هذه القاعدة الا شكليا. مؤسس الجريدة الحقيقي هو غسان تويني، الذي استطاع بذكائه وألمعيته وثقافته وليبراليته، ان يحول «النهار» ،التي لم يرث سوى اسمها من والده، إلى الجريدة الأولى. موت غسان تويني الذي أصرّ على التوريث، قاد الجريدة إلى الهاوية. سلمها في البداية لنجله جبران الذي قضى اغتيالا، فقرر توريثها إلى حفيدته التي لا علاقة لها بالموضوع، ما قاد الى انهيار محتم.
طلال سلمان فهم أن لعبة التوريث مستحيلة، فأغلق صحيفته، معطيا هذا الإغلاق نبرة رومانسية لا علاقة لها بواقع الحال.
الأزمة ليست أزمة دور فقط أو أزمة مال سياسي فقط، بل هي أزمة بنية قديمة عاندت التغير والتطور، شأنها شأن بقية بنى السلطة اللبنانية، لتجد نفسهاعاجزة عن مواجهة أزمتها وازمة الوطن وأزمة الوطن بها.
وقد عبّرت ازمة فقدان الدور والمعنى عن نفسها بشكل مروّع في صحافتنا في الأعوام الأخيرة، حين صارت الصحف غير صالحة للقراءة، وخالية من أي جهد ابداعي، وخاملة خمول الطبقة السياسية اللبنانية.
هل نعيش لحظة ميلودرامية تستدر الدموع، أم نعيش لحظة كوميدية تحول مأساة الصحافيين اللبنانيين الى اضحوكة. فلقد ضحك الصحافيون على انفسهم طويلا حين صدقوا انهم يعملون في مؤسسات، ليكتشفوا في لحظة الأزمة أنهم ضحية خدعة كتبوها بأقلامهم.
غير ان هذا المزيج الميلودرامي- الكوميدي يصل إلى ذروته حين نكتشف بأن لبنان مهدد بأن يصير وطن الجريدة الواحدة، وان الجريدة الوحيدة التي لا تعاني أزمة مالية خانقة هي جريدة «الأخبار»، المقربة من حزب الله.
هل هذا مال سياسي؟ أم مال نظيف؟
على منظري هذا الزمن الأجوف أن يتواضعوا قليلا، ويتوقفوا عن إلقاء العظات حول المال السياسي والمال النفطي، لأن ما سيجعل من بيروت مدينة الصحيفة الواحدة هو هذا المال ولا شيء غيره.